ألف ليلة وليلة
حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بمدينة دمشق قبل خلافة عبد الملك بن مروان ملك يقال له: عمر النعمان وكان من الجبابرة الكبار وقد قهر الملوك الأكاسرة والقياصرة وكان لا يصطلى له بنار ولا يجاريه أحد في مضمار وإذا غضب يخرج من منخريه لهيب النار وكان قد ملك جميع الأقطار ونفذ حكمه في سائر القرى والأمصار وأطاع له جميع العباد ووصلت عساكره إلى أقصى البلاد ودخل في حكمه المشرق والمغرب وما بينهما من الهند والسند والصين واليمن والحجاز والسودان والشام والروم وديار بكر وجزائر البحار وما في الأرض من مشاهير الأنهار كسيحون وحجيجون والنيل والفرات وأرسل رسله إلى أقصى البلاد ليأتوا بحقيقة الأخبار فرجعوا وأخبروه بأن سائر الناس أذعنت لطاعته وجميع الجبابرة خضعت لهيبته وقد عمهم بالفضل والامتنان وأشاع بينهم العدل والأمان لأنه كان عظيم الشأن وحملت إليه الهدايا من الكل فكان واجبي إليه خراج الأرض في طولها وعرضها.
وكان له ولد وقد سماه شركان لأنه نشأ آفة من آفات الزمان وقهر الشجعان وأباد الأقران فأحبه والده حباً شديداً ما عليه من مزيد وأوصى له بالملك من بعده. ثم إن شركان هذا حين بلغ مبلغ الرجال وصار له من العمر عشرون سنة أطاع له جميع العباد لما به من شدة البأس والعناد وكان والده عمر النعمان له اربع نساء بالكتاب والسنة لكنه لم يرزق منهن بغير شركان وهو من إحداهن والباقيات عواقر لم يرزق من واحدة منهن بولد ومع ذلك كله كان له ثلاثمائة وستون سرية على عدد أيام السنة القبطية وتلك السراري من سائرا لأجناس وكان قد بنى لكل واحدة منهن مقصورة وكانت المقاصير من داخل القصر، فإنه بنى اثني عشر قصراً على عدد شهور السنة وجعل في كل قصر ثلاثين مقصورة فكانت جملة المقاصير ثلاثمائة وستون مقصورة وأسكن تلك الجواري في هذه المقاصير وفرض لكل سرية منهن ليلة يبيتها عندها ولا يأتيها إلا بعد سنة كاملة، فأقام على ذلك مدة من الزمن، ثم إن ولده شركان اشتهر في سائر الأنحاء ففرح به والده وازداد قوة فطغى وتجبر وفتح الحصون والبلاد واتفق بالأمر المقدر أن جارية من جواري النعمان قد حملت واشتهر حملها وعلم الملك بذلك ففرح فرحاً شديداً وقال: لعل ذريتي ونسلي تكون كلها ذكوراً فأرخ يوم حملها وصار يحسن إليها فعلم شركان بذلك فاغتمم وعظم الأمر وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والستين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان لما علم أن جارية أبيه قد حملت اغتم وعظم عليه ذلك وقال: قد جاءني من ينازعني في المملكة فأضمر ف نفسه أن هذه الجارية إن ولدت ذكر أقتله وكتم ذلك في نفسه، هذا ما كان من أمر شركان. وأما ما كان من أمر الجارية فإنها كانت رومية وكان قد بعثها إليه هدية ملك الروم صاحب قيسارية وأرسل معها تحفاً كثيرة وكان اسمها صفية وكانت أحسن الجواري وأجملهن وجهاً وأصونهن عرضاً وكانت ذات عقل وافر وجمال باهر وكانت تخدم الملك ليلة مبيته عندها وتقول له: أيها الملك كنت أشتهي من إله السماء أن يرزقك مني ولد ذكراً حتى أحسن تربيته لك وأبالغ في أدبه وصيانته فيفرح الملك ويعجبه ذلك الكلام. فما زالت كذلك حتى كملت أشهرها فجلست على كرسي الطلق وكانت على صلاح تحسن العبادة فتصلي وتدعو الله أن يرزقها بولد صالح ويسهل عليها ولادته فتقبل الله منها دعاءها وكان الملك قد وكل بها خادماً يخبره بما تضعه هل هو ذكر أو أنثى وكذلك ولده شركان كان أرسل من يعرفه بذلك، فلما وضعت صفية ذلك المولود تأملته القوابل فوجدنه بنتاً بوجه أبهى من القمر، فأعلمن الحاضرين بذلك فرجع رسول الملك وأخبره بذلك وكذلك رسول شركان أخبره بذلك ففرح فرحاً شديداً.
فلما انصرف الخدام قالت صفية للقوابل: أمهلوا علي ساعة فإني أحس بأن أحشائي فيها شيء آخر، ثم تأوهت وجاءها الطلق ثانياً وسهل الله عليها فوضعت مولوداً ثانياً فنظرت إليه القوابل فوجدته ذكراً يشبه البدر بجبين أزهر وخد أحمر مورد ففرحت به الجارية والخدام والحشم وكل من حضر ورمت صفية الخلاص وقد أطلقوا الزغاريد في القصر فسمع بقية الجواري بذلك فحسدنها. وبلغ عمر النعمان الخبر ففرح واستبشر وقام ودخل عليها وقبل رأسها ونظر إلى المولود ثم انحنى وقبله وضربت الجواري بالدفوف ولعبت بالآلات وأمر الملك أن يسموا المولود ضوء المكان وأخته نزهة الزمان فامتثلوا أمره وأجابوه بالسمع والطاعة، ورتب لهم من يخدمهم من المراضع والخدم والحشم ورتب لهم الرواتب من السكر والأشربة والأدهان وغير ذلك مما يكل عن وصفه اللسان. وسمع أهل دمشق وأقبل الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وهنئوا الملك عمر النعمان بولده ضوء المكان وبنته نزهة الزمان فشكرهم الملك على ذلك وخلع عليهم وزاد إكرامهم من الأنعام وأحسن إلى الحاضرين من الخاص والعام، وما زال على تلك الحالة إلى أن مضت أربعة أعوام وهو في كل يوم يسأل عن صفية وأولادها، وبعد الأربعة أعوام أمر أن ينقل غليها من المصاغ والحلي والحمل والأموال شيء كثير وأوصاهم بتربيتهما وحسن أدبهما، كل هذا وابن الملك شركان لا يعلم أن والده عمر النعمان رزق ولداً ذكراً ولم يعلم أنه رزق سوى نزهة الزمان وأخفوا عليه خبر ضوء المكان إلى أن مضت أيام وأعوام وهو مشغول بمقارعة الشجعان ومبارزة الفرسان.
فبينما عمر النعمان جالس يوماً من الأيام إذ دخل عليه الحجاب وقبلوا الأرض بين يديه وقالوا: أيها الملك قد وصلت إلينا رسل من ملك الروم صاحب القسطنطينية العظمى وإنهم يريدون الدخول عليك والتمثل بين يديك فإن أذن لهم الملك بذلك ندخلهم وإلا فلا مرد لأمره فعند ذلك أمر لهم بالدخول فلما دخلوا عليه مال إليهم وأقبل عليهم وسألهم عن حالهم وما سبب إقبالهم فقبلوا الأرض بين يديه وقالوا: أيها الملك الجليل صاحب الباع الطويل اعلم أن الذي أرسلنا إليك الملك أفريدون صاحب البلاد اليونانية والعساكر النصرانية المقيم بمملكة القسطنطينية يعلمك أنه اليوم في حرب شديد مع جبار عنيد هو صاحب قيسارية والسبب في ذلك أن بعض ملوك العرب اتفق أنه وجد في بعض الفتوحات كنزاً من قديم الزمان في عهد الإسكندر فنقل منه أموالاً لا تعد ولا تحصى، ومن جملة ما وجد فيه ثلاث خرزات مدورات على قدر بيض النعام، وتلك الخرزات من أغلى الجواهر الأبيض الخالص الذي لا يوجد له نظير وكل خرزة منقوش عليها بالقلم اليوناني أمور من الأسرار ولهن منافع وخواص كثيرة ومن خواصهن أن كل مولود علقت عليه خرزة منهن لم يصبه ألم ما دامت الخرزة معلقة عليه ولا يحمي ولا يسخن. فلما وضع يده عليها ووقع بها وعرف ما فيها من الأسرار أرسل إلى الملك أفريدون هدية من التحف والمال ومن جملتها الثلاث خرزات وجهز مركبين واحد فيه مال والآخر فيه رجال يحفظون تلك الهدايا ممن يتعرض لها في البحر، وكان يعرف من نفسه أنه لا أحد يقرر أن يتعدى عليه لكونه ملك العرب ولا سيما وطريق المراكب التي فيها الهدايا في البحر الذي في مراكبه مملكة القسطنطينية وهي متوجهة غليه وليس في سواحل ذلك البحر إلا رعاياه، فلما جهز المركبين سافر إلى أن قربا من بلادنا فخرج عليهما بعض قطاع الطرق من تلك الأرض وفيهم عساكر من عند صاحب قيسارية فأخذوا جميع ما في المركبين من التحف والأموال والذخائر والثلاث خرزات وقتلوا الرجال فبلغ ذلك ملكنا فأرسل إليهم عسكراً فهزموه، فأرسل إليهم عسكراً أقوى من الأول فهزموه أيضاً.
فعنذ ذلك اغتاظ الملك وأقسم أنه لا يخرج إليهم إلا بنفسه في جميع عسكره وأنه لا يرجع عنهم حتى يخرب قيسارية ويترك أرضها وجميع البلاد التي يحكم عليها ملكاً والمراد من صاحب القوة والسلطان الملك عمر النعمان أن يمدنا بعسكر من عنده حتى يصير الفجر وقد أرسل إليك ملكنا معنا شيئاً من أنواع الهدايا ويرجو من إنعامك قبولها والتفضل عليه بالإنجاز، ثم أن الرسل قبلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة الثانية والستين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن رسل ملك القسطنطينية قبلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان بعد أن حكوا له ثم أعلموه بالهدية وكانت الهدية خمسين جارية من خواص بلاد الروم وخمسين مملوكاً عليه أقبية من الديباج بمناطق من الذهب والفضة وكل مملوك في أذنه حلقة من الذهب فيها لؤلؤة تساوي ألف مثقال من الذهب والجواري كذلك وعليهم من القماش ما يساوي مالاً جزيلاً، فلما رآهم الملك قبلهم وفرح بهم وأمر بإكرام الرسل وأقبل على وزرائه يشاورهم فيما يغفل فنهض من بينهم وزير وكان شيخاً كبيراً يقال له: دندان فقبل الأرض بين يدي الملك عمر النعمان وقال: أيها الملك ما في الأمر أحسن من أنك تجهز عسكراً جراراً وتجعل قائدهم ولدك شركان ونحن بين يديه غلمان هذا الرأي أحسبن لوجهين: الأول أن ملك الروم قد استجار بك وأرسل إليك هدية فقبلتها، والوجه الثاني أن لعدو لا يجسر على بلادنا فإذا منع عسكرك عن ملك الروم وهزم عدوه ينسب هذا الأمر إليك ويشيع ذلك في سائر الأقطار والبلاد، ولا سيما إذا وصل الخبر إلى جزائر البحر وسمع بذلك أهل المغرب فإنهم يحملون إليك الهدايا والتحف والأموال.
فلما سمع لملك هذا الكلام من وزيره دندان أعجبه واستصوبه وخلع عليه وقال له: مثلك من تستشيره الملوك ينبغي أن تكون أنت في مقدم العسكر وولدي شركان في ساقة العسكر ثم إن الملك أمر بإحضار ولده فلما حضر قص عليه القصة وأخبره بما قاله الرسل وبما قاله الوزير دندان وأوصاه بأخذ الأهبة والتجهيز للسفر وأنه لا يخالف الوزير دندان فيما يشور به عليه وأمره أن ينتخب من عسكره عشرة آلاف فارس كاملين العدة صابرين على الشدة فامتثل شركان ما قاله والده عمر النعمان وقام في الوقت واختار من عسكره عشرة آلاف فارس ثم دخل قصره وأخرج مالاً جزيلاً وأنفق عليهم المال وقال لهم: قد أمهلتكم ثلاثة أيام فقبلوا الارض بين يديه مطيعين لأمره، ثم خرجوا من عنده وأخذوا من الأهبة وإصلاح الشأن ثم إن شركان دخل خزائن السلاح وأخذ ما يحتاج إليه من العدد والسلاح، دخل الإصطبل واختار منه الخيل المسالمة وأخذ غير ذلك وبعد ذلك أقاموا ثلاثة أيام ثم خرجت العساكر إلى ظاهر المدينة وخرج الملك عمر النعمان لوداع ولده شركان فقبل الأرض بين يديه وأهدى له سبع خزائن من المال وأقبل على الوزير دندان وأوصاه بعسكر ولده شركان فقبل الأرض بين يديه وأجابه بالسمع والطاعة وأقبل الملك على ولده شركان وأوصاه بمشاورة الوزير دندان في سائر الأمور، فقبل ذلك ورجع والده إلى أن دخل المدينة، ثم إن شركان أمر كبار العسكر بعرضهم عليه وكانت عدتهم عشرة آلاف فارس غير ما يتبعهم ثم إن القوم حملوا ودقت الطبول وصاح النفير وانتشرت الأعلام تخفق على رؤوسهم ولم يزالوا سائرين والرسل تقدمهم إلى أن ولى النهار وأقبل الليل، فنزلوا واستراحوا وباتوا تلك الليلة. فلما اصبح الصباح ركبوا وساروا ولم يزالوا سائرين، والرسل يدلونهم على الطريق مدة عشرين يوماً ثم أشرفوا في اليوم الحادي والعشرين على واد واسع الجهات كثير الأشجار والنبات، وكان وصولهم إلى ذات الوادي ليلاً فأمرهم شركان بالنزول والإقامة فيه ثلاثة أيام فنزل العساكر وضربوا الخيام وافترق العسكر يميناً وشمالاً ونزل الوزير دندان وصحبته رسل أفريدون، صاحب القسطنطينية، في وسط ذلك الوادي وأما الملك شركان فإنه كان في وقت وصول العسكر، وقف بعدهم ساعة حتى نزلوا جميعهم وتفرقوا في جوانب الوادي ثم إنه أرخى عنان جواده وأراد أن يكشف ذلك الوادي، ويتولى الحرس بنفسه لأجل وصية والده إياه فإنهم في أول بلاد الروم وأرض العدو فسار وحده بعد أن أمر مماليكه وخواصه بالنزول عند الوزير دندان ثم إنه لم يزل سائراً على ظهر جواده في جوانب الوادي، إلى أن مضى من الليل ربعه فتعب وغلب عليه النوم فصار لا يقدر أن يركض الجواد وكان له عادة أنه ينام على ظهر جواده.
فلما هجم عليه النوم نام ولم يزل الجواد سائراً به إلى نصف الليل فدخل به في بعض الغابات وكانت تلك الغابة كثيرة الأشجار فلم ينتبه شركان حتى دق الجواد بحافره في الأرض فاستيقظ فوجد نفسه بين الأشجار، وقد طلع عليه القمر وأضاء في الخافقين فاندهش شركان لما رأى نفسه في ذلك المكان وقال كلمة لا يخجل قائلها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فبينما هو كذلك خائف منا لوحوش متحير لا يدري أين يتوجه فلما رأى القمر أشرف على مرج كأنه من مروج الجنة سمع كلاماً مليحاً وصوتاً علياً وضحكاً يسبي عقول الرجال فنزل الملك شركان عن جواده في الأسحار ومشى حتى أشرف على نهر فرأى فيه الماء يجري وسمع كلام امرأة تتكلم بالعربية وهي تقول: وحق المسيح إن هذا منكن غير مليح ولكن كل من تكلمت بكلمة صرعتها وكتفتها بزنارها كل هذا وشركان يمشي إلى جهة الصوت حتى انتهى إلى طرف المكان ثم نظر فإذا بنهر مسرح وطيور تمرح وغزلان تسنح ووحوش ترتع والطيور بلغاتها لمعاني الحظ تنشرح وذلك المكان مزركش بأنواع النبات، فقال:
ماتحسن الأرض إلا عند زهرتـهـا والماء من فوقها يجري بـإرسـال.
صنعا الاله العظيم الشأن مـقـتـدرا معطى العطايا ومعطي كل منفضال.
فنظر شركان إلى ذكل المكان فرأى فيه ديراً، ومن داخل الدير قلعة شاهقة في الهواء في ضوء القمر وفي وسطها نهر يجري الماء منه إلى تلك الرياض وهناك امرأة بين يديها عشر جوار كأنهن الأقمار وعليهن من أنواع الحلي والحلل ما يدهش الأبصار وكلهن أبكار بديعات كما قيل فيهن هذه الأبيات:
يشرق المرج بما فيه من البيض العـوال
زاد حسناً وجـمـالاً من بديعات الخلال
كل هيفاء قـوامـا ذات غـنـج ودلال
راخيات الشـعـور كاعناقيد الـدوالـي
فاتـنـات بـعـيون راميات بالـنـبـال
مائسـات قـاتـلات لصناديد الـرجـال
فنظر شركان إلى هؤلاء العشر جوار فوجد بينهن جارية كأنه البدر عند تمامه بحاجب مرجرج وخبير أبلج وطرف أهدب وصدغ معقرب فأنشد:
تزهو علي بألحـاظ بـديعـات وقدها مخجل للسـمـهـريات
تبدو إلينـا وخـداهـا مـوردة فيها منا لظرف أنواع الملاحات
كأن طرتها في نور طلعتـهـا ليل يلوح على صبح المسرات
فسمعها شركان وهي تقول للجواري: تقدموا حتى أصارعكم قبل أن يغيب القمر ويأتي الصباح فصارت كل واحدة منهن تتقدم إليها فتصرعها في الحال وتكتفها بزنارها فلم تزل تصارعهن وتصرعهن حتى صرعت الجميع ثم التفتت إليها جارية عجوز كانت بين يديها وقالت لها وهي كالمغضبة عليها: يا فاجرة أتفرحين بصرعك للجواري فها أنا عجوز وقد صرعتهن أربعين مرة فكيف تعجبين ينفسك ولكن إن كان لك قوة على مصارعتي فصارعيني فإن أردت ذلك وقمت لمصارعتي أقوم لك وأجعل رأسك بين رجليك فتبسمت الجارية ظاهراً وقد امتلأت غيظاً منها باطناً وقامت إليها وقالت لها: يا سيدتي ذات الدواهي بحق المسيح أتصارعينني حقيقة أو تمزحين معي؟ قالت لها: بل اصارعك حقيقة وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما قالت لها: أصارعك حقيقة قالت لها: قومي للصراع إن كان لك قوة، فلما سمعت العجوز منها اغتاظت غيظاً شديداً وقام شعر بدنها كأنه شعر قنفذ وقامت لها الجارية فقالت لها العجوز: وحق المسيح لا أصارعك إلا وأنا عريانة يا فاجرة، ثم إن العجوز أخذت منديل حرير بعد أن فكت لباسها وأدخلت يديها تحت ثيابها ونزعتها من فوق جسدها ولمت المنديل وشدته في وسطها فصارت كأنها عفرية معطاء أو حية رقطاء ثم انحنت على الجارية وقالت لها: افعلي كفعلي كل هذا وشركان ينظر إليهما، ثم إن شركان صار يتأمل في تشويه صورة العجوز ويضحك، ثم إن العجوز لما فعلت ذلك قامت الجارية على مهل وأخذت فوطة يمانية، وتنتها مرتين وشمرت سراويلها فبان لها ساقان من المرمر، وفوقهما كثيب من البلور ناعم مربرب، وبطن يفوح المسك من أعكانه كأنه مصفح بشقائق النعمان وصدر فيه نهدان كفحلي رمان ثم انحنت عليها العجوز وتماسكا ببعضهما فرفع شركان رأسه إلى السماء ودعا الله أن الجارية تغلب العجوز، فدخلت الجارية تحت العجوز ووضعت يدها الشمال في شفتها ويدها اليمين في رقبتها مع حلقها ورفعتها على يديها فانفلتت العجوز من يديها، وارادت الخلاص فوقعت على ظهرها فارتفعت رجلاها إلى فوق فبانت شعرتها في القمر، ثم ضرطت ضرطتين عفرت إحداهما في الأرض ودخنت الأخرى في السماء، فضحك شركان منهما حتى وقع على الأرض، ثم قام وسل حسامه والتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً غير العجوز مرمية على ظهرها فقال في نفسه: ما كذب من سماك ذات الدواهي ثم تقرب منهما ليسمع ما يجري بينهما.
فأقبلت الجارية ورمت على العجوز ملاءة من حرير رفيعة وألبستها ثيابها واعتذرت إليها وقالت لها: يا سيدتي ذات الداواهي ما أردت إلا صرعك لأجل جميع ما حصل لك ولكن أنت انفلت من بين يدي فالحمد لله على السلامة، فلما ترد عليها جواباً وقامت تمشي من خجلها ولم تزل ماشية إلى أن غابت عن البصر وصارت الجواري مكتفات مرميات، والجارية واقفة وحدها فقال شركان في نفسه لكل رزق سبب ما غلب علي النوم وسار بي الجواد إلى هذا المكان إلا لبختي فلعل هذه الجارية وما معها يكون غنيمة لي ثم ركب جواده ولكزه ففر به كالسهم إذا فر من القوس وبيده حسامه، مجرد من غلافه ثم صاح: الله أكبر فلما رأته الجارية نهضت قائمة، وقالت: اذهب إلى أصحابك قبل الصباح لئلا يأتيك البطارقة فيأخذونك على أسنة الرماح وأنت ما فيك قوة لدفع النسوان فكيف تدافع الرجال الفرسان فتحير شركان في نفسه وقال لها: وقد ولت عنه معرضة لقصد الدير: يا سيدتي أتذهبين وتتركين المتيم الغريب المسكين الكسير القلب؟ فالتفتت إليه وهي تضحك، ثم قالت له: ما حاجتك فإني أجيب دعوتك؟ فقال: كيف أطأ أرضك واتحلى بحلاوة لطفك وأرجع بلا أكل من طعامك وقد صرت من بعض خدامك؟ فقالت: لا يأبى الكرامة إلا لئيم تفضل باسم الله على الرأس والعين واركب جوادك وسر على جانب النهر مقابلي، فأنت في ضيافتي. ففرح شركان وبادر إلى جواده وركب وما زال ماشياً مقابلها وهي سائرة قبالته إلى أن وصل إلى جسر معمول بأخشاب من الجوز وفيه بكر بسلاسل من البولاد وعليها أقفال في كلاليب فنظر شركان إلى ذلك الجسر وإذا بالجواري اللاتي كن معها في المصارعة قائمات ينظرن إليها فلما أقبلت عليهن كلمت جارية منهن بلسان الرومية وقالت لها: قومي غليه وأمسكي عنان جواده ثم سيري به إلى الدير فسار شركان وهي قدامه إلى أن عدي الجسر وقد اندهش عقله مما رأى، وقال في نفسه: يا ليت الوزير دندان كان معي في هذا المكان وتنظر عيناه إلى تلك الجواري الحسان، ثم التفت إلى تلك الجارية وقال لهاك يا بديعة الجمال قد صار لي عليك الآن حرمتان حرمة الصحبة وحرمة سيري إلى منزلك وقبول ضيافتك وقد صرت تحت حكمك وفي عهدك فلو أنك تنعمين علي بالمسير إلى بلاد الإسلام وتتفرجين على كل أسد ضرغام وتعرفين من أنا فلما سمعت كلامه اغتاظت منه وقالت له: وحق المسيح لقد كنت عندي ذا عقل ورأي ولكني اطلعت الآن على ما في قلبك من الفساد وكيف يجوز لك أن تتكلم بكلمة تنسب بها إلى الخداع كيف أصنع هذا؟ وأنا أعلم متى حصلت عند ملككم عمر النعمان لا أخلص منه لأنه ما في قصوره مثلي ولو كان صاحب بغداد وخراسان، وبنى له اثني عشر قصراً في كل قصر ثلاثمائة وست وستون جارية على عدد أيام السنة والقصور عدد أشهر السنة وحصلت عنده ما تركني لأن اعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي كما في كتبكم حيث قيل فيها أو ما ملكت أيمانكم فكيف تكلمني بهذا الكلام؟ وأما قولك: وتتفرجين على شجعان المسلمين فوحق المسيح إنك قلت قولاً غير صحيح فإني رأيت عسكركم لما استقبلتم أرضنا وبلادنا في هذين اليومين فلما أقبلتم لم أر تربيتكم تربية ملوك وإنما رأيتكم طوائف مجتمعة وأما قولك: تعرفين من أنا فأنا لا أصنع معك جميلاً لأجل إجلالك وإنما افعل ذلك لأجل الفخر ومثلك ما يقول لمثلي ذلك ولو كنت شركان بن الملك عمر النعمان الذي ظهر في هذا المكان فقال شركان في نفسه: لعلها عرفت قدوم العسكر وعرفت عدتهم وأنهم عشرة آلاف فارس وعرفت أن والدي أرسلهم معي لنصرة ملك القسطنطينية ثم قال شركان: يا سيدتي أقسمت عليك بمن تعتقدين من دينك أن تحدثيني بسبب ذلك حتى يظهر لي الصدق من الكذب ومن يكون عليه وبال ذلك فقالت له: وحق ديني لولا أني خفت أن يشيع خبري أني من بنات الروم لكنت خاطرت بنفسي وبارزت العشرة آلاف فارس وقتلت مقدمهم الوزير دندان وظفرت بفارسهم شركان وما كان علي من ذلك عار ولكني قرأت الكتب وتعلمت الأدب من كلام العرب، ولست أصف لك نفسي بالشجاعة، مع أنك رأيت مني العلامة والصناعة والقوة في الصراع والبراعة ولو حضر شركان مكانك في هذه الليلة وقيل له نط هذا النهر لأذعن واعترف بالعجز وإني أسأل المسيح أن يرميه بين يدي في هذا الدير حتى خرج له في صفة الرجال أو أأسره واجعله في الأغلال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستون قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية النصرانية لما قالت هذا الكلام لشركان وهو يسمعه أخذته النخوة والحمية وغيره الأبطال وأراد أن يظهر لها نفسه ويبطش بها ولكن رده عنها فرط جمالها وبديع حسنها فأنشد هذا البيت:
وإذا المليح أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
ثم صعدت وهو في أثرها فنظر شركان إلى ظهر الجارية، فراى أردافها تتلاطم كالأمواج في البحر الرجراج فأنشد هذه الأبيات:
في وجهها شافع يمحو إساءتهـا من القلوب وجيه حيثما شفعـا
إذا تأملتها ناديت مـن عـجـب البدر في ليلة الإكمال قد طلعـا
لو أن عفريت بلقيس يصارعهـا من فرط قوته في ساعة صرعا
ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى باب مقنطر وكانت قنطرته من رخام ففتحت الجارية الباب ودخلت ومعها شركان وسارا إلى دهليز طويل مقبى على عشر قناطر معقودة وعلى كل قنطرة قنديل من البلور يشتعل كاشتعال الشمس، فلقيها الجواري في آخر الدهليز بالشموع المطيبة وعلى رؤوسهن العصائب المزركشة بالفصوص من أصناف الجواهر وسارت وهن أمامها وشركان وراءها إلى أن وصلوا إلى الدير فوجد بداخل ذلك الدير أسرة مقابلة لبعضها وعليها ستور مكللة بالذهب وأرض الدير مفروشة بأنواع الرخام المجزع، وفي وسطه بركة ماء عليها أربع وعشرين قارورة من الذهب والماء يخرج منها كاللجين ورأى في الصدر سريراً مفروشاً بالحرير الملوكي فقالت له الجارية: اصعد يا مولاي على هذا السرير فصعد شركان فوق السرير، وذهبت الجارية وغابت عنه فسأل عنها بعض الخدام فقالوا له: إنها ذهبت إلى مرقدها ونحن نخدمك كما أمرت، ثم إنها قدمت إليه من غرائب الألوان فأكل حتى اكتفى ثم بعد ذلك قدمت إليه طشتاً وإبريقاً من الذهب فغسل يديه وخاطره مشغول بعسكره لكونه لا يعلم ما جرى لهم بعد ويتذكر أيضاً كيف نسي وصية أبيه فصار متحيراً في أمره نادماً على ما فعل إلى أن طلع الفجر وبان النهار وهو يتحسر على ما فعل وصار مستغرقاً في الفكر وأنشد هذه الأبيات:
لم أعدم الحزم ولـكـنـنـي دهيت في الأمر فما حيلتـي
لو كان من يكشف عني الهوى برئت من حولي ومن قوتـي
وإن قلبي في ضلال الهـوى صب وأرجو الله في شدتـي
فلما فرغ من شعره رأى بهجة عظيمة قد أقبلت فنظر فإذا هو بأكثر من عشرين جارية كالأقمار حول تلك الجارية وهي بينهن كالبدر بين الكواكب وعليها ديباج ملوكي وفي وسطها زنار مرصع بأنواع الجواهر وقد ضم خصرها وأبرز ردفها فصارا كأنهما كثيب بلور تحت قضيب من فضة ونهداها كفحلي رمان، فلما نظر شركان ذلك كاد عقله أن يطير من الفرح ونسي عسكره ووزيره وتأمل رأسها فرأى عليها شبكة من اللؤلؤ مفصلة بأنواع الجواهر والجواري عن يمينها ويسارها يرفعن أذيالها وهي تتمايل عجباً فعند ذلك وثب شركان قائماً على قدميه من هيبة حسنها وجمالها فصاح: واحسرتاه من هذا الزنار وأنشد هذه الأبيات:
ثقـيلة الأرداف مــائلة خرعوبة ناعمة النـهـد
تكتمت ما عندها من جوى ولست أكتم الذي عنـدي
خدامها يمشين من خلفهـا كالقبل في حل وفي عقد
ثم إن الجارية جعلت تنظر إليه طويلاً وتكرر فيه النظر إلى أن تحققته وعرفته فقالت له بعد أن أقبلت عليه: قد أشرق بك المكان يا شركان كيف كانت ليلتك يا همام بعدما مضينا وتركناك؟ ثم قالت له إن الكذب عند الملوك منقصة وعار ولا سيما عند أكابر الملوك وأنت شركان بن عمر النعمان فلا تنكر نفسك وحسبك ولا تكتم أمرك عني ولا تسمعني بعد ذلك غير الصدق. إن الكذب يورث البغض والعداوة، فقد نفذ فيك سهم القضا فعليك بالتسليم والرضا. فلما سمع كلامها لم يمكنه الإنكار فأخبرها بالصدق وقال لها: أنا شركان بن عمر النعمان الذي عذبني الزمان وأوقعني في هذا المكان، فمهما شئت فافعليه الآن، فأطرقت برأسها إلى الأرض برهة ثم التفتت إلهي وقالت له: طب نفساً وقر عيناً فإنك ضيفي وصار بيننا وبينك خبز وملح وحديث ومؤانسة فأنت في ذمتي وفي عهدي فكن آمناً. وحق المسيح لو أراد أهل الأرض أن يؤذوك لما وصلوا إليك إلا إن خرجت روحي من أجلك، ولو كان خاطري في قتلك لقتلتك في هذا الوقت.
ثم تقدمت إلى المائدة وأكلت من كل لون لقمة، فعند ذلك أكل شركان ففرحت الجارية وأكلت معه إلى أن اكتفيا،وبعد أن غسلا أيديهما قامت وأمرت الجارية أن تأتي بالرياحين وآلات الشراب من أواني الذهب والفضة والبلور وأن يكون الشراب من سائر الألوان المختلفة والأنواع النفيسة فأتتها بجميع ما طلبته، ثم إن الجارية ملأت أولاً القدح وشربته قبله كما فعلت في الطعام، ثم ملأت ثانياً وأعطته إياه فشرب فقالت له: يا مسلم انظر كيف أنت في ألذ عيش ومسرة، ولم تزل تشرب معه إلى أن غاب عن رشده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة الخامسة والستين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية ما زالت تشرب وتسقي شركان إلى أن غاب عن رشده من الشراب ومن سكر محبتها، ثم إنها قالت الجارية: يا مرجانة هات لنا شيئاً من آلات الطرب فقالت: سمعاً وطاعة، ثم غابت لحظة وأتت بعود جلقي وجنك عجمي وناي تتري وقانون مصري، فأخذت الجارية العود وأصلحته وشدت أوتاره وغنت عليه بصوت رخيم أرق من النسيم وأعذ من ماء التنسيم وأنشدت مطربة بهذه الأبيات:
عفا الله عن عينينك كم سفكت دما وكم فوقت منك اللواحظ أسهما
أجل حبيباً حائراً في حـبـيبـه حراً عـيه أن يرق ويرحـمـا
هنيئاً لطرف فيك بات مسـهـداً وطوبى لقلب ظل فيك متـيمـا
تحكمت في قتلي فإنك مالـكـي بروحي أفدي الحاكم المتحكمـا
ثم قامت واحدة من الجواري ومعها آلتها وأنشدت تقول عليها أبيات بلسان الرومية فطرب شركان، ثم غنت الجارية سيدتهن أيضاً وقالت: يا مسلم أما فهمت ما أقول؟ قال: لا ولكن ما طربت إلا على حسن أناملك، فضحكت وقالت له: إن غنيت لك بالعربية ماذا تصنع؟ فقال: ما كنت أتمالك عقلي، فأخذت آلة الطرب وغيرت الضرب وأنشدت هذه الأبيات:
طعم التفريق مـر فهل لذلك صـبـر
أهوى ظريفاً سباني بالحسن والهجر مر
فلما فرغت من شعرها نظرت إلى شركان فوجدته قد غاب عن وجوده ولم يزل مطروحاً بينهن ممدوداً ساعة ثم أفاق وتذكر الغناء فمال طرباً، ثم إن الجارية أقبلت هي وشركان على الشراب ولم يزالا في لعب ولهو إلى أن ولى النهار بالرواح ونشر الليل الجناح فقامت إلى مرقدها فسأل شركان عنها فقالوا له أنها مضت إلى مرقدها فقال: في رعاية الله وحفظه، فلما أصبح أقبلت عليه الجارية وقالت له: إن سيدتي تدعوك إليها فقام معها وسار خلفها فلما قرب من مكانها زفته الجواري بالدفوف والمغاني إلى أن وصل إلى باب كبير من العاج مرصع بالدر والجوهر فلما دخلوا منه وجد داراً كبيرة أيضاً وفي صدرها إيوان كبير مفروش بأنواع الحرير وبدائر ذلك شبابيك مفتحة مطلة على أشجار وأنهار وفي البيت صور مجسمة يدخل فيها الهواء فتتحرك في جوفها آلات فيتخيل للناظر أنها تتكلم والجارية جالسة تنظر إليهم، فلما نظرته الجارية نهضت قائمة غليه وأخذت يده وأجلسته بجانبها وسألته عن مبيته فدعا لها ثم جلسا يتحدثان فقالت له: أتعرف شيئاً مما يتعلق بالعاشقين والمتيمين؟ فقال: نعم أعرف شيئاً من الأشعار فقالت أسمعني فأنشد هذه الأبيات:
لا.. لا أبوح بحب عزة إنهـا أخذت علي مواثقاً وعهـودا
وهبان مدين والذين عهدتهـم يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة ركعاً وسجـودا
فلما سمعته قالت: لقد كان باهراً كثيراً في الفصاحة بارع البلاغة لأنه بالغ في وصفه العزة حيث قال، وأنشدت هذين البيتين:
لو أن عزة حاكمت شمس الضحى في الحسن عند موفق لقضي لها
وسعت إلي بغيب عـزة نـسـوة جعل الإله خدودهن نعـالـهـا
ثم قالت: وقيل أن عزة كانت في غاية الحسن والجمال ثم قالت له: يا ابن الملك إن كنت تعرف شيئاً من كلام جميل فأنشدنا منه، ثم قال: إني أعرف به كل واحد، ثم أنشد من شعر جميل هذا البيت:
تريدين قتلي لا تريدين غـيره ولست أرى قصداً سواك أريد
فلما سمعت ذلك قالت له: أحسنت يا ابن الملك، ما الذي ارادته عزة بجميل حتى قال هذا الشطر؟ أي: تريدين قتلي لا تريدين غيره، فقال لها شركان: يا سيدتي لقد أرادت به ما تريدين مني ولا يرضيك، فضحكت لما قال لها شركان هذا الكلام، ولم يزالا يشربان إلى أن ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار فقامت الجارية وذهبت مرقدها ونامت ونام شركان في مرقده إلى أن أصبح الصبح، فلما أفاق أقبلت عليه الجواري بالدفوف وآلات الطرب كالعادة ومشى الجواري حوله يضربن بالدفوف والآلات إلى أن خرج من تلك الدار ودخل داراً غيره أعظم من الأولى وفيها من التماثيل وصور الوحوش ما لا يوصف فتعجب شركان مما رأى من صنع ذلك المكان فأنشد هذه الأبيات:
أجني رقيبي من ثمار قلائد در النحور منضداً بالعسجد
وعيون ماء من سبائك فـضة وخدود ورد في وجوه زبرجد
فكأنما لون البنفسج قد حكـى زرق العيون وكحلت بالأثمد
فلما رأت الجارية شركان قامت له وأخذت يده وأجلسته إلى جانبها وقالت له: أنت ابن الملك عمر النعمان فهل تحسن لعب الشطرنج؟ فقال: نعم، ولكن لا تكوني كما قال الشاعر:
أقول والوجد يكويني وينـشـرنـي ونهلة من رضاب الحب تروينـي
حضرت شطرنج من أهوى فلاعبني بالبيض والسود ولكن ليس يرضيني
كأنما الشاة عند الرخ مـوضـعـه وقد تفقـد دسـتـا بـالـفـرازين
فإن نظرت إلى معنى لواحظـهـا فإن ألحاظهـا يا قـوم تـردينـي
ثم قدم الشطرنج ولعبت معه فصار شركان كلما أراد أن ينظر إلى نقلها نظر إلى وجهها فيضع الفرس موضع الفيل ويضع الفيل موضع الفرس فضحكت وقالت: إن كان لعبك هكذا فأنت لا تعرف شيئاً فقال: هذا أول دست لا تحسبيه، فلما غلبته رجع وصف القطع ولعب معها فغلبته ثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً، ثم التفتت إليه وقالت له: أنت في كل شيء مغلوب فقال: يا سيدتي مع مثلك يحسن أن أكون مغلوباً، ثم أمرت بإحضار الطعام فأكلا وغسلا أيديهما وأمرت بإحضار الشراب فشربا وبعد ذلك أخذت القانون وكان لها بضرب القانون معرفة جيدة فأنشدت هذه الأبيات:
الدهر ما بين مطوي ومبسـوط ومثله مثل محرور ومخـروط
فاضرب على إن كنت مقتـدراً أن لا تفارقني في وجه التفريط
ثم إنهما لم يزالا على ذلك إلى أن أقبل الليل فكان ذلك اليوم أحسن من اليوم الذي قبله، فلما أقبل الليل مضت الجارية إلى مرقدها وانصرف شركان إلى موضعه فنام إلى الصباح ثم أقبلت عليه الجواري بالدفوف وآلات الطرب وأخذوه كالعادة إلى أن وصلوا إلى الجارية فلما رأته نهضت قائمة وأمسكته من يده وأجلسته بجانبها وسألته عن مبيته فدعا لها بطول البقاء، ثم أخذت العود وأنشدت هذين البيتين:
لا تركننن إلى الفراق فإنه مـر الـمـذاق
الشمس عند غروبهـا تصفر من ألم الفراق
فبينما هما على هذه الحالة وإذا هما بضجة فالتفتا فرأيا رجالاً وشباناً مقبلين وغالبهم بطارقة بأيديهم السيوف مسلولة تلمع وهم يقولون بلسان رومية: وقعت عندنا يا شركان فأيقن الهلاك، فلما سمع شركان هذا الكلام قال في نفسه: لعل هذه الجارية الجميلة خدعتني وأمهلتني إلى أن جاء رجالها وهم البطارقة الذين خوفتني بهم، ولكن أنا الذي جنيت على نفسي وألقيتها في الهلاك.
ثم التفت إلى الجارية ليعاتبها فوجد وجهها قد تغير بالاصفرار، ثم وثبت على قدميها وهي تقول لهم: من أنتم؟ فقال لها البطريق المقدم عليهم: أيتها الملكة الكريمة والدرة اليتيمة أما تعرفين الذي عندك من هو؟ قالت له: لا أعرفه فمن هو؟ فقال لها: هذا مخرب البلدان وسيد الفرسان هذا شركان ابن الملك عمر النعمان هذا الذي فتح القلاع وملك كل حصن منيع، وقد وصل خبره إلى الملك حردوب والدك من العجوز ذات الدواهي وتحقق ذلك ملكنا نقلاً عن العجوز وها أنت قد نصرت عسكر الروم بأخذ هذا الأسود المشؤوم.
فلما سمعت كلام البطريق نظرت إليه وقالت له: ما اسمك؟ قالت لها: اسمي ماسورة بن عبدك موسورة بن كاشردة بطريق البطارقة قالت له: كيف دخل علي بغير إذني؟ فقال لها: يا مولاتي إني لماوصلت إلى الباب ما منعني حاجب ولا بواب بل قام جميع البوابين ومشوا بين أيدينا كما جرت به العادة إنه إذا جاء غيرنا يتركونه واقفاً على الباب حتى يستأذنوا عليه الدخول وليس هذا وقت إطالة الكلام والملك منتظر رجوعنا إليه بهذا الملك الذي هو شرارة جمرة عسكر الإسلام لأجل أن يقتله ويرحل عسكره إلى المواضع الذي جاؤوا منه من غير أن يحصل لنا تعب في قتالهم.
فلما سمعت الجارية هذا الكلامقالت له: إن هذا الكلام غير حسن ولكن قد كذبت العجوز ذات الدواهي ظنها قد تكلمت بكلام باطل لا تعلم حقيقته. وحق المسيح الذي هتدي ما هو شركان وغلا كنت أسرته ولكن رجل أتى إلينا وقدم علينا فطلب الضيافة فأضفناه، فإذا تحققنا أنه شركان بعينه وثبت عندنا أنه هو من غير شك فلا يليق بمروءتي أن أمكنكم منه لأنه دخل تحت عهدي وذمتي، فلا تخونوني في ضيفي ولا تفضحوني بين الأنام بل ارجع أنت إلى الملك أبي وقبل الأرض بين يديه وأخبره بأن الأمر بخلاف ما قالته العجوز ذات الدواهي.
فقال البطريق ماسورة: يا إبريزة أنا ما أقدر أن أعود إلى الملك إلا بغريمه. فلما سمعت هذا الكلام قالت: لا كان هذا الأمر فإنه عنوان السفه لأن هذا الرجل واحد وأنتم مائة، فإذا أردتم مصادمته فابرزوا له واحداً بعد واحد ليظهر عند الملك من هو البطل منكم.
فقال البطريق ماسورة: يا إبريزة أنا ما أقدر أن أعود إلى الملك إلا بغريمه. فلما سمعت هذا الكلام قالت: لا كان هذا الأمر فإنه عنوان السفه لأن هذا الرجل واحد وأنتم مائة، فإذا أردتم مصادمته فابرزوا له واحداً بعد واحد ليظهر عند الملك من هو البطل منكم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة السادسة والستين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة أبريزة لما قالت للبطريق ذلك قال: وحق المسيح لقد قلت الحق ولكن ما يخرج له ولا غيري فقالت الجارية: اصبر حتى أذهب إليه وأعرفه بحقيقة الأمر وأنظر ما عنده من الجواب فإن أجاب الأمر كذلك وإن أبى فلا سبيل لكم إليه وأكون أنا ومن في الدير فداءه. ثم أقبلت على شركان وأخبرته بما كان فتبسم وعلم أنها لم تخبر أحداً بأمره وإنما شاع خبره حتى وصل إلى الملك بغير إرادتها فرجع باللوم على نفسه وقال: كيف رميت روحي في بلاد الروم؟ ثم إنه لما سمع كلام الجارية قال لها: إن بروزهم لي واحداً واحد جحاف بهم فهلا يبرزون لي عشرة بعد عشرة؟ وبعد ذلك وثب على قدميه وسار إلى أن أقبل عليهم وكان معه سيفه وآلة حربه، فلما رآه البطريق وثب إليه وحل عليه فقابله شركان كأنه الأسد وضربه بالسيف على عاتقه فخرج السيف يلمع من أمعائه، فلما نظرت الجارية ذلك عظم قدر شركان عندها وعرفت أنها لم تصرعه حين صرعته بقوتها بل بحسنها وجمالها. ثم إن الجارية أقبلت على البطارقة وقالت لهم: خذوا بثأر صاحبكم فخرج له أخو المقتول وكان جباراً عنيداً فحمل على شركان فلم يمهله شركان دون أن ضربه بالسيف على عاتقه فخرج السيف يلمع من أمعائه.
فعند ذلك نادت الجارية وقالت: يا عباد المسيح خذوا بثأر صاحبكم، فلم يزالوا يبرزوا إليه واحداً بعد واحد وشركان يلعب فيهم بسيفه حتى قتل منهم خمسين بطريقاً والجارية تنظر غلتهم وقد قذف الله الرعب في قلوب من بقي منهم وقد تأخروا عن البراز ولم يجسروا على البراز إليه واحداً واحداً بل حملوا عليه حملة واحدة بأجمعهم وحمل عليهم بقلب أقوى من الحجر إلى أن طحنهم طحن الدروس وسلب منهم العقول والنفوس فصاحت الجارية على جواريها وقالت لهن: من بقي في الدير؟ فقلن لها: لم يبق إلا البوابين، ثم إن الملكة لاقته وأخذته بالأحضان وطلع شركان معها إلى القصر بعد فراغه من القتال، وكان قد بقي منهم قليل كامن في زوايا الدير فلما نظرت الجارية إلى ذلك لقليل قامت من عند شركان ثم رجعت إليه وعليها زردية ضيقة العيون وبيدها صارم مهند وقالت: وحق المسيح لا أبخل بنفسي على ضيفي ولا أتخلى عنه ولم أبق بسبب ذلك معيرة في بلاد الروم ثم إنها تأملت البطارقة فوجدتهم قد قتل منهم ثمانون وانهزم منهم عشرون، فلما نظرت إلى ما صنع بالقوم قالت له: بمثلك تفتخر الفرسان فلله درك يا شركان، ثم إنه قام بعد ذلك يمسح سيفه من دم القتلى وينشد هذه الأبيات:
وكم من فرقة في الحرب جاءت تركت كمماتهم طعم السـبـاع
سلوا عني إذا شـئتـم نـزالـي جميع الخلق في يوم الـقـراع
تركت ليوثهم في الحرب صرعى على الرمضاء في تلك البقـاع
فلما فرغ من شعره أقبلت عليه الجارية مبتسمة وقبلت يده وقلعت الدرع الذي كان عليها فقال لها: يا سيدتي لأي شيء لبست الدرع الزرد وشهرت حسامك؟ قالت: حرصاً عليك من هؤلاء اللئام، ثم إن الجارية دعت البوابين وقالت لهم: كيف تركتم أصحاب الملك يدخلون منزلي بغير إذني؟ فقالوا لها: أيتها الملكة ما جرت العادة أن نحتاج إلى استئذان منك على رسل الملك خصوصاً البطريق الكبير، فقالت لهم: أظنكم ما أردتم إلا هتكي وقتل ضيفي ثم أمرت شركان أن يضرب رقابهم وقالت لباقي خدامها أنهم يستحقون أكثر من ذلك، ثم التفتت لشركان وقالت له: الآن ظهر لك ما كان خافياً فها أنا أعلمك بقصتي: اعلم أني بنت ملك الروم حردوب واسمي إبريزة والعجوز التي تسمى ذات الدواهي جدتي أم أبي وهي التي أعلمت أبي بك ولا بد أنها تدبر حيلة في هلاكي خصوصاً وقد قتلت بطارقة أبي وشاع أني قد تحزبت مع المسلمين، فالرأي السديد أنني أترك الإقامة هنا ما دامت ذات الدواهي خلفي، ولكن أريد منك أن تفعل معي مثل ما فعلت معك من الجميل، فإن العداوة قد أوقعت بيني وبين أبي فلا تترك من كلامي شيئاً فإن هذا كله ما وقع إلا من أجلك.
فلما سمع شركان هذا الكلام طار عقله من الفرح واتسع صدره وانشرح وقال: والله لا يصل إليك أحداً ما دامت روحي في جسدي ولكن هل لك صبر على فراق والدك وأهلك؟ قالت: نعم فحلفها شركان وتعاهدا على ذلك، فقالت له: إنك ترجع بعسكرك إلى بلادك فقال لها: يا سيدتي إن أبي عمر النعمان أرسلني إلى قتال والدك بسبب المال الذي أخذه ومن جملته الثلاث خرزات الكثيرة البركات فقالت له: طب نفساً وقر عيناً فها أنا أحدثك بحديثها وأخبرك بسبب معاداتهما لملك القسطيطينية وذلك أن لنا عيداً يقال له عيد الدير كل سنة تجتمع فيه الملوك من جميع الأقطار وبنات الأكابر والتجار ويقعدون فيه سبعة أيام وأنا من جملتهم، فلما وقعت بيننا العداوة منعني أبي من حضور ذلك العيد مدة سبع سنين فاتفق في سنة من السنين أن بنات الأكابر من سائر الجهات قد جاءت من أماكنها إلى الدير في ذلك العيد على العادة ومن جملة من جاء إليه بنت ملك القسطنطينية وكان يقال لها صفية فأقاموا في الدير ستة أيام وفي اليوم السابع انصرف الناس فقالت صفية: أنا ما أرجع إلى القسطنطينية إلا فيال بحر فجهزوا لها مركباً فنزلت فيها هي وخواصها وأحلوا القلوع وساروا، فبينما هم سائرون وإذا بريح قد هبت عليهم فأخرج المركب عن طريقها وكان هناك بالقضاء والقدر مركب نصارى من جزيرة الكافور وفيها خمسمائة إفرنجي ومعهم العدة والسلاح وكان لهم مدة في البحر.
فلما لاح لهم قلع المركب التي فيها صفية ومن معها من البنات انقضوا علها مسرعين فما كان غير ساعة حتى وصلوا إلى ذلك المركب ووضعوا فيه الكلاليب وجروها وحلوا قلوعهم وقصدوا جزيرتهم فما بعدوا غير قليل حتى انعكس عليهم الريح فجذبهم إلى شعب بعد أن مزق قلوع مركبهم وقربهم منا فخرجنا فرأيناهم غنيمة قد انساقت إلينا، فأخذناهم وقتلناهم واغتنمنا ما معهم من الأموال والتحف وكان في مركبهم أربعون جارية ومن جملتهم ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية، فاختار أبي منهن عشر جواري وفيهن ابنة الملك وفرق الباقي على حاشيته ثم عزل خمسة منهن ابنة الملك من العشر جواري وأرسل تلك الخمسة هدية إلى والدك عمر النعمان مع شيء من الجوخ ومن قماش الصوف ومن قماش الحرير الرومي فقبل الهدية أبوك واختار من الخمس جواري صفية ابنة الملك أفريدون. فلما كان أول هذا العام أرسل أبوها إلى والدي مكتوباً فيه كلام لا ينبغي ذكره حيث راح يهدده في ذلك المكتوب ويوبخه ويقول له: إنكم أخذتم مركبنا منذ سنتين وكان في يد جماعة لصوص من الإفرنج وكان من جملة ما فيه ابنتي صفية ومعها من الجواري نحو ستين جارية ولم ترسلوا إلى أحداً يخبرني بذلك وأنا لا أقدر أن أظهر خبرها خوفاً أن يكون في حقي عاراً عند الملوك من أجل هتك ابنتي فكتمت أمري إلى هذا العام والذي بين لي كذلك أني كاتبت هؤلاء اللصوص وسألتهم عن خبر ابنتي وأكدت لهم أن يفتشوا عليها ويخبروني عند أي ملك هي من ملوك الجزائر، فقالوا: والله ما خرجنا بها من بلادك ثم قال في المكتوب الذي كتبته لوالدي إن لم يكن مرادكم معاداتي ولا فضيحتي ولا هتك ابنتي فساعة وصول كتابي إليكم ترسلوا إلي ابنتي من عندكم وإن أهملتم كتابي وعصيتم أمري فلا بد لي من أن أكافئكم على قبيح أفعالكم وسوء أعمالكم.
فلما وصلت هذه المكاتبة إلى أبي وقرأها وفهم ما فيها شق عليه ذلك وندم حيث لا يعرف أن صفية بنت الملك في تلك الجواري ليردها إلى والدها فصار متحيراً في أمره ولم يمكنه بعد هذه المدة الطويلة أن يرسل إلى الملك النعمان ويطلبها منه ولا سيما وقد سمعنا من مدة يسيرة أنه رزق من جاريته التي قال لها صفية بنت الملك أفريدون أولاد، فلما تحققا ذلك علمنا أن هذه الورطة هي المصيبة العظمى ولم يكن لأبي حيلة، غير أنه كتب جواباً للملك أفريدون يعتذر إليه ويحلف له بالأقسام أنه لا يعلم أن ابنته من جملة الجواري التي كانت في ذلك المركب ثم أظهر له على أنه أرسلها إلى الملك عمر أتنعمان وأنه رزق منها أولاد، فلما وصلت رسالة أبي إلى أفريدون ملك القسطنطينية قام وقعد وأرغى وأزبد وقال: كيف تكون ابنتي مسبية بصفة الجواري وتتداولها أيدي الملوك ويطئونها بلا عقد، ثم قال: وحق المسيح والدين الصحيح أنه لا يمكنني أن أتعاقد مع هذا الأمر دون أخذ الثأر وكشف العار، فلا بد من أن أفعل فعلاً يتحدث به الناس من بعدي، وما زال صابراً إلى أن عمل الحيلة ونصب مكيدة عظيمة وأرسل رسلاً إلى والدك عمر النعمان وذكر له ما سمعت من الأقوال حتى جهزك والدك بالعساكر التي معك من أجلها وسيرك إليه حتى يقبض عليك أنت ومن معك من عساكرك، وأما الثلاث خرزات التي أخبر والدك بها في مكتوبه فليس لذلك صحة وإنما كانت مع صفية ابنته وأخذها أبي حين استولى عليها هي والجواري التي معها ثم وهبها إلي وهي عندي الآن، فاذهب أنت إلى عسكرك وردهم قبل أن يتوغلوا في بلاد الإفرنج والروم فإنكم إذا توغلتم في بلادهم يضيقون عليكم الطرق ولا يكن لكم خلاص من أيديهم إلى يوم الجزاء والقصاص، وأنا اعرف أن الجيوش مقيمون في مكانهم لأنك أمرتهم بالإقامة ثلاثة أيام مع أنهم فقدوك في هذه المدة ولم يعلموا ماذا يفعلون.
فلما سمع شركان هذا لكلام صار مشغول الفكر بالأوهام، ثم إنه قبل يد الملكة إبريزة وقال: الحمد لله الذي منّ علي بك وجعلك سبباً لسلامتي ومن معي ولكن يعز علي فراقك ولاأعلم ما يجري عليك من بعدي؟ فقالت له: اذهب أنت الآن إلى عسكرك وردهم وإن كانت الرسل عندهم فاقبض عليهم، حتى يظهر لكم الخبر وأنتم بالقرب من بلادكم، وبعد ثلاثة أيام أنا ألحقكم وماتدخلون بغداد إلا وأنا معكم فندخل كلنا سواء. فلما أراد الانصراف قالت له: لا تنسى العهد الذي بيني وبينك ثم إنها نهضت قائمة معه لأجل التوديع والعناق وإطفاء نار الأشواق وبكت بكاء يذيب الأحجار وأرسلت الدموع كالأمطار فلما رأى منها ذلك البكاء والدموع اشتد به الوجد والولوع ونزع في الوداع دمع العين وأنشد هذين البيتين:
ودعتها ويدي اليمين لأدمعـي ويدي اليسار لضمة وعـنـاق
قال أما تخشى الفضيحة قلت لا يوم الوداع فضيحة العـشـاق
ثم فارقها شركان ونزلا من الدير وقدموا له جواده وخرج متوجهاً إلى الجسر فلما وصل إليه مر من فوقه ودخل بين تلك الأشجار فلما تخلص من الأشجار ومشى في ذلك المرج وإذا هو بثلاثة فوارس فأخذ لنفسه الحذر منهم وشهر سيفه وانحدر فلما قربوا منه ونظر بعضهم بعضاً عرفوه وعرفهم ووجد أحدهم الوزير دندان ومعه أميران وعندما عرفوه ترجلوا له وسلوا عليه وسأله الوزير دندان عن سبب غيابه فأخبره بجميع ماجرى له من الملكة إبريزة من أوله إلى آخره فحمد الله تعالى على ذلك ثم قال شركان: ارحلوا بنا من هذه البلاد لأن الرسل الذين جاؤوا معنا رحلوا من عندنا، ليعلموا ملكهم بقدومنا فربما أسرعوا إلينا وقبضوا علينا ثم نادى شركان في عسكره بالرحيل فرحلوا كلهم ولم يزالوا سائرين مجدين في السير حتى وصلوا إلى سطح الوادي وكانت الرسل قد توجهوا إلى ملكهم، وأخبروه بقدوم شركان فجهز إليه عسكراً ليقبضوا عليه وعلى من معه، هذا ما كان من أمر الرسل وملكهم.
وأما ما كان من أمر شركان فإنه سافر بعسكره مدة خمسة وعشرين يوماً حتى أشرفوا على أوائل بلادهم فلما وصلوا هناك أمنوا على أنفسهم ونزلوا لأخذ الراحة فخرج إليهم أهل تلك البلاد بالضيافات وعليق البهائم ثم أقاموا يومين ورحلوا طالبين ديارهم وتأخر شركان بعدهم في مائة فارس وجعل الوزير دندان أميراً على من معه من الجيش فسار الوزير دندان بمن معه مسيرة يوم ثم بعد ذلك ركب شركان هو والمائة فارس الذين معه، وساروا مقدار فرسخين حتى وصلوا إلى محل مضيق بين جبلين وإذا أمامهم غبرة وعجاج فمنعوا خيولهم من السير مقدار ساعة حتى انكشف الغبار وبان من تحته مائة فارس ليوث عوابس وفي الحديد والزرد غواطس فلما قربوا من شركان ومن معه صاحوا عليهم وقالوا: وحق يومنا ومريم إننا قد بلغنا ما أملناه ونحن خلفكم مجدون السير ليلاً ونهاراً حتى سبقناكم إلى هذا المكان فانزلوا عن خيولكم وأعطونا أسلحتكم، وسلموا لنا أنفسكم حتى نجود عليكم بأرواحكم.
فلما سمع شركان ذلك الكلام لاجت عيناه واحمرت وجنتاه وقال لهم: يا كلاب النصارى كيف تجاسرتم علينا وجئتم بلادنا ومشيتم أرضنا وما كفاكم ذلك حتى تخاطبونا بهذا الخطاب أظننتم أنكم تخلصون من أيدينا وتعودون إلى بلادكم؟ ثم صاح على المائة فارس الذين معه وقال لهم: دونكم وهؤلاء الكلاب فإنهم في عددكم ثم سل سيفه وحمل عليهم وحملت معه المائة فارس فاستقبلتهم الإفرنج بقلوب أقوى من الصخر واصطدمت الرجال بالرجال ووقعت الأبطال بالأبطال والتحم القتال واشتد النزال وعظمت الأهوال وقد بطل القيل والقال ولم يزالوا في الحرب والكفاح والضرب بالصفاح حتى ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار فانفصلوا عن بعضهم واجتمع شركان بأصحابه فلم يجد أحداً منهم مجروحاً غير أربعة أنفس حصل لهم جراحات سليمة.
فقال لهم شركان: أنا عمري أخوض بحر الحرب العجاج المتلاطم من السيوف بالأمواج وأقاتل الرجال فوالله ما لقيت أصبر على الجلاد، وملاقاة الرجال مثل هؤلاء الأبطال فقالوا له: اعلم أيها الملك أن فهم فارساً إفرنجياً، وهو المقدم عليهم له شجاعة وطعنات نافذات، غير أن كل من وقع منا بين يديه يتغافل عنه ولا يقتله فوالله لو أراد قتلنا لقتلنا بأجمعنا، فتحير شركان لما سمع ذلك المقال وقال في غد نصطف ونبارزهم فها نحن مائة وهم مائة ونطلب النصر عليهم من رب السماء وباتوا تلك الليلة على ذلك الاتفاق وأما الإفرنج فإنهم اجتمعوا عند مقدمهم وقالوا له: إننا ما بلغنا اليوم في هؤلاء إرباً فقال لهم: في غد نصطف ونبارزهم واحداً بعد واحد فباتوا على ذلك الاتفاق أيضاً فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح وطلعت الشمس على رؤوس الروابي والبطاح وسلمت على محمد زين الملاح ركب الملك شركان وركب معه المائة فارس وأتوا إلى الميدان كلهم فوجدوا الإفرنج قد اصطفوا للقتال فقال شركان لأصحابه: إن أعداءنا قد اصطفوا فدونكم والمبادرة إليهم، فنادى مناد من الإفرنج: لا يكون قتالنا في هذا اليوم إلا مناوبة بأن يبرز بطل منكم إلى بطل منا. فعند ذلك برز فارس من أصحاب شركان وسار بين الصفين وقال: هل من مبارز؟ هل من مناجر؟ لا يبرز لي اليوم كسلان ولا عاجز، فلم يتم كلامه حتى برز إليه فارس من الإفرنج غريق في سلاحه وقماشه من ذهب، وهو راكب على جواد أشهب وذلك الإفرنجي لا نبات بعارضيه فسار جواده حتى وقف في وسط الميدان وصادمه بالضرب والطعان فلم يكن غير ساعة حتى طعنة الإفرنجي بالرمح فنكسه عن جواده وأخذه أسيراً وقاده حقيراً ففرح به قومه ومنعوه أن يخرج إلى الميدان وأخرجوا غيره، وقد خرج إليه من المسلمين آخر وهو أخو الأسير ووقف معه في الميدان وحمل الاثنان على بعضهما ساعة يسيرة ثم كر الإفرنجي على المسلم وغالطه وطعنه بعقب الرحم فنكسه عن جواده وأخذه أسيراً وما زال يخرج إليهم من المسلمين واحداً بعد واحد والإفرنج يأسرونهم إلى أن ولى النهار وأقبلا لليل باعتكار وقد أسروا من المسلمين عشرون فارساً.
فلما عاين شركان ذلك عظم عليه الأمر، فجمع أصحابه وقال لهم: ما هذا الأمر الذي حل بنا أنا أخرج في غد إلى الميدان وأطلب براز الإفرنجي المقدم عليهم وأنظر ما الذي حمله على أن يدخل بلادنا وأحذره من قتالنا، فإن أبى قاتلناه وإن صالحناه وباتوا على هذا الحال إلى أن أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح ثم ركب الطائفتان واصطف الفريقان فلما خرج شركان إلى الميدان رأى الإفرنج قد ترجل منهم أكثر من نصفهم قدام فارس منهم ومشوا قدامه إلى أن صاروا في وسط الميدان فتأمل شركان ذلك الفارس، فرآه الفارس المقدام عليهم وهو لابس قباء من أطلس أزرق وجهه فيه كالبدر إذا أشرق ومن فوقه زردية ضيفة العيون وبيده سيف مهند وهو راكب على جواد أدهم في وجهه غرة كالدرهم وذلك الإفرنجي لا نبات بعارضيه: ثم إنه لكز جواده حتى صار في وسط الميدان، وأشار إلى المسلمين وهو يقول بلسان عربي فصيح: يا شركان يا ابن عمر النعمان الذي ملك الحصون والبلدان دونك والحرب والطعان وأبرز إلى من قد ناصفك في الميدان، فأنت سيد قومك وأنا سيد قومي فمن غلب منا صاحبه أخذه هو وقومه تحت طاعته فما استتم كلامه حتى برز له شركان وقلبه من الغيظ ملآن وساق جواده، حتى دنا من الإفرنجي في الميدان فكر عليه الإفرنجي كالأسد الغضبان، وصدمه صدمة الفرسان وأخذا في الطعن والضرب وصارا إلى حومة الميدان كأنهما جبلان يصطدمان أو بحران يلتطمان ولم يزالا في قتال وحرب ونزال من أول النهار إلى أن اقبل الليل بالاعتكار ثم انفصل كل منهما من صاحبه وعاد إلى قومه.
فلما اجتمع شركان بأصحابه قال لهم: ما رأيت مثل هذا الفارس قط إلا أني رأيت منه خصلة لم أرها من أحد غيره وهو أنه إذا لاح في خصمه مضرب قاتل يقلب الرمح ويضرب بعقبه ولكن ما أدري ماذا يكون مني ومنه ومرادي أن يكون عسكرنا مثله ومثل أصحابه وبات شركان، فلما أصبح الصباح خرج له الإفرنجي ونزل في وسط الميدان وأقبل عليه شركان ثم أخذا في القتال وأوسعا في الحرب والمجال وامتدت إليهما الأعناق ولم يزالا في حرب وكفاح وطعن بالرماح إلى أن ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار ثم افترقا ورجعا إلى قومهم وصار كل منهما يحكي لأصحابه ما لاقاه من صاحبه ثم إن الإفرنجي قال لأصحابه: في غد يكون الانفصال وباتوا تلك الليلة إلى الصباح ثم ركب الاثنان وحملا على بعضهما، ولم يزالا في الحرب إلى نصف النهار وبعد ذلك عمل الإفرنجي ولكز جواده ثم جذبه اللجام فعثر به فرماه فانكب عليه شركان، وأراد أن يضربه بالسيف خوفاً أن يطول به المطال فصاح به الإفرنجي وقال: يا شركان ما هكذا تكون الفرسان، إنما هو فعل المغلوب بالنسوان. فلما سمع شركان من ذلك الفارس هذا الكلام، رفع طرف إليه وأمعن النظر فيه فوجده الملكة إبريزة التي وقع له معها ما وقع في الدير، فلما عرفها رمى السيف من يده وقبل الأرض بين يديها، وقال لها: ما حملك على هذه الأفعال؟ فقالت له: أردت أن أختبرك في الميدان، وأنظر ثباتك في الحرب والطعان وهؤلاء الذين معي كلهن جواري وكلهن بنات أبكار وقد قهرن فرسانك في حزمة الميدان ولولا أن جوادي قد عثر بي، لكنت ترى قوتي وجلادي فتبسم شركان من قولها وقال: الحمد لله على السلامة وعلى اجتماعي بك يا ملكة الزمان، ثم إن الملكة إبريزة صاحت على جواريها وأمرتهن بالرحيل بعد أن يطلقن العشرين أسيراً الذين كن أسرتهن من قوم شركان، فامتثلت الجواري أمرها ثم قبلن الأرض بين يديها، فقال لهن: مثلكن من يكون عند الملوك مدخراً للشدائد ثم إنه أشار إلى أصحابه أن يسلموا عليها فترجلوا جميعاً وقبلوا الأرض بين يدي الملكة إبريزة ثم ركب المائتا فارس وساروا في الليل والنهار مدة ستة أيام وبعد ذلك أقبلوا على الديار، فأمر شركان الملكة إبريزة وجواريها أن ينزعن ما عليهن من لباس الإفرنج، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان أمر الملكة إبريزة وجواريها أن ينزعن ما عليهن من الثياب وأن يلبسن لباس بنات الروم ففعلن ذلك، ثم إنه أرسل جماعة من أصحابه إلى بغداد ليعلم والده عمر النعمان بقدومه، ويخبره أن الملكة إبريزة بنت ملك الروم جاءت صحبته لأجل أن يرسل مركباً لملاقاتهم ثم إنهم نزلوا من وقتهم وساعتهم في المكان الذي وصلوا إليه وباتوا فيه إلى الصباح فلما أصبح ركب شركان هو ومن معه وركبت أيضاً الملكة إبريزة هي ومن معها واستقبلوا المدينة وإذا بالوزير دندان قد أقبل في ألف فارس من أجل ملاقاة الملكة إبريزة هي وشركان وكان خروجه بإشارة الملك عمر النعمان كما أرسل إليه ولده شركان فلما قربوا منهما توجهوا إليهما وقبلوا الأرض بين أيديهما، ثم ركبا وركبوا معهما وصاروا في خدمتهما حتى وصلا إلى المدينة وطلعا قصر الملك ودخل شركان على والده، فقام إليه واعتنقه وسأل عن الخبر فأخبره بما قالته الملكة إبريزة وما اتفق له معها، وكيف فارقت مملكتها وفارقت أباها، وقال لها إنها اختارت الرحيل معنا والقعود عندنا وأن ملك القسطنطينية أراد أن يعمل لنا حيلة من أجل صفية بنته لأن ملك الروم قد أخبره بحكايتها وبسبب إهدائها إليك وأن ملك الروم ما كان يعرف ذلك ما كان أهداها إليك بل كان يردها إلى والدها ثم قال شركان لوالده: وما يخلصنا من هذه الحيل والمكايد إلا إبريزة بنت ملك القسطنطينية وما رأينا أشجع منها ثم أنه شرع يحكي لأبيه ما وقع له معها من أوله إلى آخره من أمر المصارعة والمبارزة.
فلما سمع الملك عمر النعمان من ولده شركان ذلك الكلام عظمت إبريزة عنده وصار يتمنى أن يراها، ثم إنه طلبها لأجل أن يسألها فعند ذلك ذهب شركان إليها وقال لها: إن الملك يدعوك فأجابت بالسمع والطاعة، فأخذها شركان وأتى بها إلى والده وكان والده قاعداً على كرسيه وأخرج من كان عنده ولم يبق عنده غير الخدم فلما دخلت الملكة إبريزة على الملك عمر النعمان وقبلت الأرض بين يديه وتكلمت بأحسن الكلام فتعجب الملك من فصاحتها وشكرها على ما فعلت مع ولده شركان وأمرها بالجلوس فجلست وكشفت عن وجهها فلما رآها الملك خبل بينه وبين عقله ثم إنه قربها إليه وأدناها منه وأفرد لها قصراً مختصاً بها وبجواريها ورتب ثم أخذ يسألها عن تلك الخرزات الثلاث التي تقدم ذكرها سابقاً فقالت له: إن تلك الخرزات معي يا ملك الزمان ثم إنها قامت ومضت إلى محلها وفتحت صندوقاً وأخرجت منه علبة وأخرجت من العلبة حقاً من الذهب وفتحته وأخرجت منه تلك الخرزات الثلاث ثم قبلته وناولتها للملك وانصرفت فأخذت قلبه معها وبعد انصرافها أرسل إلى ولده شركان فحضر فأعطاه خرزة من الثلاث خرزات فسأله عن الاثنتين الأخريين فقال: يا ولدي قد أعطيت منهما واحد لأخيك ضوء المكان والثانية لأختك نزهة الزمان. فلما سمع شركان أن له أخاً يسمى ضوء المكان وما كان يعرف إلا أخته نزهة الزمان التفت إلى والده الملك النعمان وقال له: يا والدي ألك ولد غيري؟ قال: نعم وعمره الآن ست سنين ثم أعلمه أن اسمه ضوء المكان وأخته نزهة الزمان وأنهما ولدا في بطن واحد فصعب عليه ذلك ولكنه كتم سره وقال لوالده: على بركة الله تعالى ثم رمى الخرزة من يده ونفض أثوابه فقال له الملك: مالي أراك قد تغيرت لما سمعت هذا الخبر مع أنك صاحب المملكة من بعدي وقد عاهدت امرأة الدولة على ذلك، وهذه خرزة لك من الثلاث خرزات؟ فأطرق شركان برأسه إلى الأرض واستحى أن يكافح والده ثم قام هو لا يعلم كيف يصنع من شدة الغيظ وما زال ماشياً حتى دخل قصر الملكة إبريزة فلما أقبل عليها نهضت إليه قائمة وشكرته على أفعاله ودعت له ولوالده وجلست وأجلسته في جانبها فلما استقر به الجلوس رأت في وجهه الغيظ فسألته عن حاله، وما سبب غيظه فأخبرها أن والده الملك عمر النعمان رزق من صفية ولدين ذكراً وأنثى، وسمى الولد ضوء المكان والأنثى نزهة الزمان وقال لها: إنه أعطاهما خرزتين وأعطاني واحدة فتركتها وأنا إلى الآن لم أعلم بذلك إلا في هذا الوقت فخنقني الغيظ، وقد أخبرتك بسبب غيظي ولم أخف عنك شيئاً وأخشى عليك أن يتزوجك فإني رأيت منه علامة الطمع في أنه يتزوج بك فيما تقولين أنت في ذلك؟ فقالت: اعلم يا شركان أن أباك ما له حكم علي ولا يقدر أن يأخذني بغي بغير رضاي وإن كان يأخذني غصباً قتلت روحي وأما الثلاث خرزات فما كان على بالي أنه ينعم علي أحد من أولاده بشيء منها وما ظننت إلا أنه يجعلها في خزائنه مع ذخائره ولكن أشتهي من إحسانك أن تهب لي الخرزة التي أعطاها لك والدك إن قبلتها منه فقال سمعاً وطاعة، ثم قالت له: لا تخف وتحدثت معه ساعة وقالت له: إني أخاف أن يسمع أبي أني عندكم فيسعى في طلبي ويتفق هو والملك أفريدون من أجل ابنته صفية فيأتيان إليكم بعساكر وتكون ضجة عظيمة. فلما سمع شركان ذلك قال لها: يا مولاتي إذا كنت راضية بالإقامة عندنا لا تفكري فيهم فلو اجتمع علينا كل من في البر والبحر لغلبناهم فقالت: ما يكون إلا الخير وها أنتم إن أحسنتم إلي إن قعدت عندكم وإن أسأتموني رحلت من عندكم ثم إنها امرت الجواري بإحضار شيء من الأكل فقدمن المائدة فأكر شركان شيئاً يسيراً ومضى إلى داره مهموماً مغموماً، هذا ما كان من أمر شركان.
وأما ما كان من أمر أبيه عمر النعمان فإنه بعد انصراف ولده شركان من عنده قام ودخل على جاريته صفية ومعه تلك الخرزات فلما رأته نهضت قائمة على قدميها إلى أن جلس فأقبل عليه ولداه ضوء المكان ونزهة الزمان فلما رآهما قبلهما وعلق على كل واحد منهما خرزة ففرحا بالخرزتين وقبلا يديه وأقبلا على أمهما ففرحت بهما ودعت للملك بطول الدوام فقال لها الملك: يا صفية حيث أنك ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية لأي شيء لم تعلميني لأجل أن أزيد في إكرامك ورفع منزلتك؟ فلما سمعت صفية ذلك قالت: أيها الملك وماذا أريد أكثر من هذا زيادة على هذه المنزلة التي أنا فيها، فها أنا مغمورة بأنعامك وخيرك وقد رزقني الله منك بولدين ذكر وأنثى، فأعجب الملك عمر النعمان كلامها واستظرف عذوبة ألفاظها ودقة فهمها وظرف أدبها ومعرفتها ثم إنه مضى من عنده من عندها وأفرج لها ولأولادها قصراً عجيباً ورتب لهم الخدم والحشم والفقهاء والحكماء والفلكية والأطباء والجرائحية وأوصاهم بهم وزاد في رواتبهم وأحسن إليهم غاية الإحسان، ثم رجع إلى قصر المملكة والمحاكمة بين الناس هذا ما كان من أمره مع صفية وأولادها. وأما ما كان من أمره مع الملكة إبريزة فإنه اشتغل بحبها وصار ليلاً ونهاراً مشغوفاً بها وفي كل ليلة يدخل إليها ويتحدث عندها ويلوح لها بالكلام فلم ترد له جواباً بل تقول: يا ملك الزمان أنا في هذا الوقت مالي غرض في الرجال فما رأى تمنعها منه اشتد به الغرام وزاد عليه الوجد والهيام، فلما أعياه ذلك أحضر وزيره دندان وأطلعه على ما في قلبه من محبة الملكة إبريزة ابنة الملك حردوب وأخبره أنها لا تدخل في طاعته وقد قتله حبها ولم ينل منها شيئاً فلما سمع الوزير دندان ذلك قال للملك: إذا جن الليل فخذ معك قطعة بنج مقدار مثقال وادخل عليها واشرب معها شيئاً من الخمر فإذا كان وقت الفراغ من الشرب فأعطها القدح الأخير واجعل فيه ذلك البنج واسقها إياه فإنها ما تصل إلى مرقدها، إلا وقد تحكم عليها البنج فتبلغ غرضك منها وهذا ما عندي من الرأي، فقال له الملك: نعم ما أشرت به علي ثم إنه عمد إلى غزائنه وأخرج منها قطعة بنج مكرر لو شمه الفيل لرقد من السنة إلى السنة ثم إنه وضعها في جيبه وصبر إلى أن مضى قليل من الليل ودخل على الملكة إبريزة في قصرها، فلما رأته نهضت إليه قائمة فأذن لها بالجلوس وجلس عندها وصار يتحدث معها في أمر الشراب فقدمت سفرة الشراب وصفت له الأواني وصار يشرب معها وينادمها إلى أن دب السكر في رأس الملكة إبريزة.
فلما علم الملك عمر النعمان ذلك أخرج قطعة البنج من يده وجعلها بين أصابعه وملأ كأساً بيده وشربه وملأ ثانياً وأسقط قطعة البنج من جيبه فيه وهي لا تشعر بذلك، ثم قال لها: خذي اشربي فأخذته الملكة إبريزة وشربته فما كان إلا دون ساعة حتى تحكم البنج عليها وسلب إدراكها فقام إليها ملقاة على ظهرها وقد كانت قلعت السراويل من رجليها ورفع الهواء ذيل قميصها عنها فلما دخل عليها الملك ورآها على تلك الحالة ووجد عند رأسها شمعة وعند رجليها شمعة تضيء على ما بين فخذيها خيل بينه وبين عقله ووسوس له الشيطان، فما تمالك نفسه حتى قلع يراويله ووقع عليها وأزال بكارتها وقام من فوقها ودخل إلى جارية من جواريها يقال لها مرجانة وقال لها: ادخلي على سيدتك وكلميها فدخلت الجارية على سيدتها، فوجدت دمها يجري على سيقانها وهي ملقاة على ظهرها فمدت يدها إلى منديل من مناديلها وأصلحت به شأن سيدتها ومسحت عنها ذلك الدم.
فلما أصبح الصباح تقدمت الجارية مرجانة وغسلت وجه سيدتها ويديها ورجليها ثم جاءت بماء الورد وغسلت وجهها وفمها فعند ذلك عطست الملكة إبريزة وتقيأت ذلك البنج لنزلت قطعة البنج من باطنها كالقرص، ثم إنها غسلت فمها ويدها وقالت: أعلميني بما كان من أمري فأخبرتها أنها رأتها ملقاة على ظهرها ودمها سائل على فخذيها فعرفت أن الملك عمر النعمان قد وقع بها وواصلها وتحت حيلته عليها فاغتمت لذلك غماً شديداً وحجبت نفسها وقالت لجواريها: امنعوا كل من أراد أن يدخل علي وقولوا له: إنها ضعيفة حتى أنظر ماذا يفعل الله بي.
فعند ذلك وصل الخبر إلى الملك عمر النعمان بأن الملكة إبريزة ضعيفة فصار يرسل إليها الأشربة والسكر والمعاجين وأقامت على ذلك شهوراً وهي محجوبة، ثم إن الملك قد بردت ناره وانطفأ شوقه إليها وصبر عنها وكانت قد علقت به، فلما مرت عليها أشهر وظهر الحمل وكبر بطنها ضاقت بها الدنيا فقالت لجاريتها مرجانة: اعلمي أن القوم ما ظلموني وإنما أنا الجانية على نفسي حيث أبي وأمي ومملكتي وأنا قد كرهت الحياة وضعفت همتي ولم يبق عندي من الهمة ولا من القوة شيء، وكنت إذا ركبت جوادي أقدر عليه وأنا الآن لا أقدر الركوب ومتى ولدت عندهم صرت معيرة عند الجواري وكل من في القصر يعلم أنه أزال بكارتي سفاحاً وإذا رجعت لأبي بأي وجه ألقاه وبأي وجه أرجع إليه وما أحسن قول الشاعر:
بم التغلل من أهلي ولا وطني ولا نديم ولا كأس ولا سكن
فقالت لها مرجانة: الأمر أمرك وأنا في طوعك فقالت: وأنا اليوم أريد أن أخرج سراً بحيث لا يعلم بي أحد غيرك وأسافر إلى أبي وأمي فإن اللحم إذا أنتن ما له إلا أهله والله يفعل بي ما يريد، فقالت لها: ما تفعلين أيتها الملكة؟ ثم إنها جهزت أحوالها وكتمت سرها وصبرت أياماً حتى خرج الملك للصيد والقنص وخرج ولده شركان إلى القلاع ليقيم بها مدة من الزمان فأقبلت إبريزة على جاريتها مرجانة وقالت لها: أريد أن أسافر في هذه الليلة ولكن كيف أصنع في المقادير وقد قرب؟ وإن قعدت خمسة أيام أو أربعة وضعت هنا ولم أقدر أن أروح بلادي وهذا ما كان مكتوباً على جبيني ومقدراً علي في الغيب. ثم تفكرت برهة وبعد ذلك قالت لمرجانة: انظري لنا رجلاً يسافر معنا ويخدمنا في الطريق فإنه ليس لي قوة على حمل السلاح، فقالت مرجانة: والله يا سيدتي ما أعرف غير عبد أسود اسمه الغضبان وهو من عبيد الملك عمر النعمان وهو شجاع ملازم لباب قصرنا فإن الملك أمره أن يخدمنا وقد غمرناه بإحساننا فها أنا أخرج إليه وأكلمه في شأن هذا الأمر وأعده بشيء من المال وأقول له: إذا أردت المقام عندنا أزوجك بمن تشاء، وكان قد ذكر لي قبل اليوم أنه كان يقطع الطريق فإن هو وافقنا بلغنا مرادنا ووصلنا إلى بلادنا.
فقالت لها: هاتيه عندي حتى أحدثه، فخرجت له مرجانة وقالت له: يا غضبان قد أسعدك الله إن قبلت من سيدتك ما تقوله لك من الكلام ثم أخذت بيده واقبلت على سيدتها فلما رآها قبل الأرض بين يديها فحين رأته نفر قلبها منه لكنها قالت في نفسها: إن الضرورة لها أحكام وأقبلت عليه تحدثه وقلبها نافر منه وقالت له: يا غضبان هل فيك مساعدة لنا على غدرات الزمان وإذا أظهرتك على أمري تكون كاتماً له. فلما نظر العبد إليها ورأى حسنها ملكت قلبه وعشقها لوقته وقال لها: يا سيدتي إن أمرتيني بشيء لا أخرج عنه فقالت له: أريد منك في هذه الساعة أن تأخذني وتأخذ جاريتي هذه وتشد لنا راحلتين وفرسين من خيل الملك وتضع على كل فرس خرجاً من المال وشيئاً من الزاد وترحل معنا إلى بلادنا وإن أقمت عندنا زوجناك من تختارها من جواري وإن طلبت الرجوع إلى بلادك أعطيناك ما تحب ثم ترجع إلى بلادك بعد أن تأخذ ما يكفيك من المال.
فلما سمع الغضبان ذلك الكلام فرح فرحاً شديداً وقال: يا سيدتي إني أخدمكما بعيوني وأمضي معكما وأشد لكما الخيل. ثم مضى وهو فرحان وقال في نفسه: قد بلغت ما أريد منهما، وإن لم يطاوعني قتلتهما وأخذت ما معهما من المال وأضمر ذلك في سره، ثم مضى وعاد ومعه راحلتان وثلاث من الخيل وهو راكب إحداهن وأقبل على الملكة إبريزة وقدم إليها فرساً فركبتها وهي متوجعة من الطلق فما قدرت أن تمسك نفسها على الفرس، فقالت للغضبان: أنزلني فقد لحقني الطلق وقالت لمرجانة: انزلي واقعدي تحتي وولديني، فعند ذلك نزلت مرجانة من فوق رأسها ونزل الغضبان من فوق فرسه وشد لجام الفرسين ونزلت الملكة إبريزة من فوق فرسها وهي غائبة عن الدنيا من شدة الطلق، وحين رآها الغضبان نزلت على الأرض وقف الشيطان في وجهه فشهر حسامه في وجها وقال: يا سيدتي ارحميني بوصلك، فلما سمعت مقالته التفتت إليه وقالت له: ما بقي إلا العبيد السود بعد ما كنت لا أرضى بالملوك الصناديد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن لملكة إبريزة لما قالت للعبد، العبد هو الغضبان: ما بقي إلا العبيد السود ثم صارت تبكته وأظهرت له الغيظ وقالت له: ويلك ما هذا الكلام الذي تقوله لي؟ فلا تتكلم بشيء من هذا في حضرتي واعلم أنني لا أرضى بشيء مما قلته ولو سقيت كأن الردى ولكن اصبر حتى أصلح الجنين وأصلح شأني وأرمي الخلاص ثم بعد ذلك إن قدرت علي فافعل بي ما تريد وإن لم تترك فاحش الكلام في هذا الوقت فإني أقتل نفسي بيدي وأرتاح من هذا كله، ثم أنشدت هذه الأبيات:
أيا غضبان دعني قد كفانـي مكايدة الحوادث والـزمـان
عن الفحشاء ري قد نهـانـي وقال النار مثوى من عصاني
وإني لا أميل بفـعـل سـوء بعين النقص دعني لا تراني
ولم تترك الفحشـاء عـنـي وترعى حرمتي فيمن رعاني
لأسرح طاقتي لرجال قومي وأجلب كل قاصيها ودانـي
ولو قطعت بالسيف اليمانـي لما خليت فحـاشـاً يرانـي
من الأحرار والكبراء طـرا فكيف العبد من نسل الزواني
فلما سمع الغضبان ذلك الشعر غضب عضباً شديداً واحمرت مقلته واغبرت سحنته وانتفخت ناخره وامتدت مشافره وزادت به النفرات وأنشد هذه الأبيات:
أيا إبريزة لا تـتـركـينـي قتيل هواك باللحظ اليمانـي
فقلبي قد تقطع من جـفـاك وجسمي ناحل والصبر فاني
ولفظك قد سبى الألباب سحراً فعقلي نازح والشوق دانـي
ولو أجلبت ملء الأرض جيشاً لأبلغ مأربي في ذا الرمـان
فلما سمعت إبريزة كلامه بكت بكاء شديداً وقالت: ويلك يا غضبان وهل بلغ من قدرك أن تخاطبني بهذا الخطاب يا ولد الزنا وتربية الخنا، أتحسب أن الناس كلهم سواء؟ فلما سمع ذلك العبد النحس هذا الكلام غضب منها غضباً شديداً وتقدم إليها وضربها بالسيف فقتلها وساق جوادها بعد أن أخذ المال وفر بنفسه هارباً في الجبال.
هذا ما كان من أمر الغضبان، وأما ما كان من أمر الملكة إبريزة فإنها صارت طريحة على الأرضوكان الولد الذي ولدته ذكراً فحملته مرجانة في حجرها وصرخت صرخة عظيمة وشقت أثوابها وصارت تحثو التراب على رأسها وتلطم على خدها حتى طلع الدم من وجهها وقالت: واحسرتاه كيف قتل سيدتي عبد أسود لا قيمة له بعد فروسيتها؟ فبينما هي تبكي وإذا بغبار قد ثار حتى سد الأقطار ولما انكشف ذلك الغبار بان من تحته عسكر جرار وكانت العساكرعساكر ملك الروم والد الملكة إبريزة، وسبب ذلك أنه لما سمع أن ابنته هربت هي وجواريها إلى بغداد وأنها عند الملك عمر النعمان خرج بمن معه ليسأل المسافرين من أين أتوا لعله يعلم بخبر ابنته وكان على بعد هؤلاء الثلاثة ابنته والعبد الغضبان وجاريتها مرجانة فقصدهم ليسألهم، فلما قصدهم خاف العبد على نفسه بسبب قتلها فنجا بنفسه فلما أقبلوا عليها رآها أبوها مرمية على الأرض وجاريتها تبكي عليها، فرمى نفسه من فوق جواده ووقع على الأرض مغشياً عليه فترجل كل من كان معه من الفرسان والأرماء والوزراء وضربوا الخيام ونصبوا قبة الملك حردوب ووقف أرباب الدولة خارج تلك القبة، فلما رأت مرجانة سيدها عرفته وزادت في البكاء والنحيبز فلما أفاق الملك من غشيته سألها عن الخبر فأخبرته بالقصة وقالت له: إن الذي قتل ابنتك عبد أسود من عبيد الملك عمر النعمان وأخبرته بما فعله الملك عمر النعمان بابنته. فلما سمع الملك حردوب ذكلك الكلام اسودت الدنيا في وجهه وبكى بكاء شديداً، ثم أمر بإحضار محفة وحمل ابنته فيها ومضى إلى قيسارية وأدخلوها القصر ثم إن الملك حردوب دخل على أمه ذات الدواهي وقال لها: أهكذا يفعلون المسلمون ببنتي؟ فإن الملك عمر النعمان أزال بكارتها قهراً، وبعد ذلك قتلها عبد أسود من عبيده فواحق المسيح لا بد من أخذ ثأر ابنتي أو كشف العار عن عرضي وإلا قتلت نفسي بيدي، ثم بكى بكاء شديداً، فقالت له أمه ذات الدواهي: ما قتل ابنتك إلا مرجانة لأنها كانت تكرهها في الباطن ثم قالت لولدها: لا تحزن من أخذ ثأرها فواحق المسيح، لا أرجع عن الملك النعمان حتى أقتله وأقتل أولاده ولأعملن معه عملاً تعجز عنه الدهاة والأبطال ويتحدث عنه المتحدثون في جميع الأقطار ولكن ينبغي لك أن تمتثل أمري في كل ما أقوله وأنت تبلغ ما تريد فقال: وحق المسيح لا أخالفك أبداً فيما تقولينه. قالت له: إئتني بجوار نهد أبكار وائتني بحكماء الزمان وأجزل لهم العطايا وامرهم أن يعلموا الجواري الحكمة والأدب وخطاب الملوك ومنادمتهم والأشعار وأن يتعلموا بالحكمة والمواعظ، ويكون الحكماء مسلمين لأجل أن يعلموهن أخبار العرب وتواريخ الخلفاء وأخبار من سلف من ملوك الإسلام ولو أقمنا على ذلك عشرة أعوام وطول روحك واصبر فإن بعض الأعراب يقول: أن أخذ الثأر بعد أربعين عاماً مدته قليلة، ونحن إذا علمنا تلك الجواري بلغنا من عدونا ما نختار لأنه ممن يحب الجواري وعنده ثلثمائة وست وستون جارية وازددن مائة جارية من خواص جواريك اللاتي كن مع المرحومة فإذاتعلم الجواري ما أخبرتك من العلوم فإني آخذهن بعد ذلك وأسافر بهن فلما سمع الملك حردوب كلام أمه ذات الدواهي فرح فرحاً شديداً وقبل رأسها، ثم أرسل من وقته وساعته المسافرين والقصاد إلى أطراف البلاد، ليأتوا إليه بالحكماء من المسلمين فامتثلوا أمره وسافروا إلى بلاد بعيدة، وأتوا بما طلبه من الحكماء والعلماء فلما حضروا بين يديه أكرمهم غاية الإكرام وخلع عليهم الخلع ورتب لهم الرواتب والجرايات ووعدهم بالمال الجزيل إذا فعلوا ما أمرهم به، ثم أحضر لهم الجواري، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العلماء والحكماء لما حضروا عند الملك حردوب أكرمهم إكراماً زائداً وأحضروا الجواري بين أيديهم وأوصاهم أن يعلموهن الحكمة والأدب فامتثلوا أمره. هذا ما كان من أمر الملك حردوب وأما ما كان من أمر الملك عمر النعمان فإنه لما عاد من الصيد والقنص وطلع القصر طلب الملكة إبريزة فلم يجدها ولم يخبره أحد عنها فعظم عليه ذلك، وقال: كيف تخرج هذه الجارية من القصر ولم يعلم بها أحد، فإن كانت مملكتي على هذا الأمر فإنها ضائعة المصلحة ولا ضابط بها فما بقيت أخرج إلى الصيد والقنص حتى ارسل إلى الأبواب من يتوكل بها واشتد حزنه وضاق صدره، لفراق الملكة إبريزة فبينما هو كذلك وإذا بولده شركان قد أتى من سفره، فأعلمه والده بذلك وأخبره أنها هربت وهو في الصيد والقنص فاغتم شركان ذلك غماً شديداً ثم إن الملك صار يتفقد أولاده كل يوم ويكرمهم وكان قد أحضر العلماء والحكماء ليعلموهم العلم، ورتب لهم الرواتب فلما رأى شركان ذلك الأمر غضب غضباً شديداً وحسد أخوته على ذلك إلى أن ظهر أثر الغيظ في وجهه ولم يزل متمرضاً حتى هذا الأمر.
فقال له والده يوماً من الأيام: مالي أراك تزداد ضعفاً في جسمك واصفرار في لونك؟ فقال له شركان: يا والدي كلما رأيتك تقرب أخواتي وتحسن إليهم يحصل عندي حسد وأخاف أن يزيد بي الحسد فأقتلهم وتقتلني أنت بسببهم إذا أنا قتلتهم فمرض جسمي وتغير لوني بسبب ذلك، ولكن أنا أشتهي من أحسانك أن تعطيني قلعة من القلاع حتى أقيم بها بقية عمري، فإن صاحب المثل يقول: بعدي عن حبيبي أجمل وأحسن عين لا تنظر وقلب لا يحزن. ثم أطرق برأسه إلى الأرض.
فلما سمع الملك عمر النعمان كلامه عرف سبب ما هو فيه من التغير فأخذ بخاطره وقال له: يا ولد إني أجيبك إلى ما تريد، وليس في ملكي أكبر من قلعة دمشق فقد ملكتها من هذا الوقت، ثم أحضر الموقعين في الوقت والساعة وأمرهم بكتابة تقليد ولده شركان ولاية دمشق الشام فكتبوا له ذلك وجهزوه وأخذ الوزير دندان معه وأوصاه بالمملكة والسياسة وقلده أموره، ثم ودعه والده وودعته الأمراء وأكابر الدولة وسار بالعسكر حتى وصل إلى دمشق فلما وصل إليها دق له أهلنا الكاسات، وصاحوا بالبوقات وزينوا المدينة، وقابلوه بموكب عظيم سار فيه أهل الميمنة ميمنة وأهل الميسرة ميسرة فهذا ما كان من أمر شركان. وأما ما كان من أمر والده عمر النعمان فإنه بعد سفر ولده شركان أقبل عليه الحكماء وقالوا له: يا مولانا إن أولادك تعلموا الحكمة والأدب فعند ذلك فرح عمر النعمان فرحاً شديداً وأنعم على جميع الحكماء حيث رأى ضوء المكان كبر وترعرع وركب الخيل وصار له من العمر أربع عشر سنة وطلع مشتغلاً بالدين والعبادة محباً للفقراء وأهل العلم والقرآن، وصار أهل بغداد بحبونه نساء ورجالاً إلى أن طاف بغداد محمل العراق من أهل الحج، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى ضوء المكان مركب المحمل اشتاق إلى الحج فدخل على والده وقال له: إني أتيت إليك لأستأذنك في أن أحج، فمنعه من ذلك، وقال له: اصبر إلى العام القابل وأنا أتوجه إلى الحج وآخذك معي.
فلما رأى الأمر يطول عليه دخل على أخته نزهة الزمان، فوجدها قائمة تصلي فلما قضت الصلاة قال لها: إني قد قتلني الشوق إلى حج بين الله الحرام وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام واستأذنت والدي فمنعني من ذلك، فالمقصود أن آخذ شيئاً من المال وأخرج إلى الحج سراً ولا أعلم أبي بذلك، فقالت له أخته: بالله عليك أن تأخذني معك ولا تحرمني من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: إذا جن الظلام فاخرجي من هذا المكان ولا تعلمي أحداً بذلك.
فلما كان نصف الليل قامت نزهة الزمان وأخذت شيئاً من المال ولبست لباس الرجال وكانت قد بلغت من العمر مثل عمر ضوء المكان ومشت متوجهة إلى باب القصر فوجدت أخاها ضوء المكان قد جهز الجمال فركب وأركبها وسارا ليلاً واختلطا بالحجيج ومشيا إلى أن صارا في وسط الحجاج العراقيين وما زالا سائرين وكتب الله لهما السلامة، حتى دخلا مكة المشرفة ووقفا بعرفات وقضيا مناسك الحج ثم توجها إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فزاراه، وبعد ذلك أرادا الرجوع مع الحجاج إلى بلادهما فقال ضوء المكان لأخته: يا أختي أريد أن أزور بيت المقدس والخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقالت له: وأنا كذلك واتفقا على ذلك ثم خرجا واكترى له ولها مع المقادسة وجهزا حالهما وتوجها مع الركب فحصل لأخته في تلك الليلة حمى باردة فتشوشت ثم شفيت وتشوش الآخر فصارت تلاطفه في ضعفه ولم يزالا سائرين إلى أن أدخلا بيت المقدس واشتد المرض على ضوء المكان ثم إنهما نزلا في خان هناك واكتريا لهما فيه حجرة واستقرا فيها ولم يزل المرض يتزايد على ضوء المكان حتى أنحله وغاب عن الدنيا. فاغتمت لذلك أخته نزهة الزمان وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله هذا حكم الله ثم إنها قعدت هي وأخوها في ذلك المكان وقد زاد به الضعف وهي تخدمه وتتفق عليه وعلى نفسها حتى فرغ ما معها من المال وافتقرت ولم يبق معها دينار ولا درهم فأرسلت صبي الخان إلى السوق بشيء من قماشها فباعه وأنفقته على أخيها ثم باعت شيئاً آخر ولم تزل تبيع من متاعها شيئاً فشيئاً حتى لم يبق لها غير حصير مقطعة فبكت، وقالت: لله الأمر من قبل ومن بعد ثم قال لها أخوها: يا أختي إني قد أحسست بالعافية وفي خاطري شيء من اللحم المشوي فقالت له أخته: إني ما لي وجه للسؤال، ولكن غداً أدخل بيت أحد الأكابر وأخدم وأعمل بشيء نقتات به أنا وأنت ثم تفكرت ساعة وقالت: إني لا يهون علي فراقك وأنت في هذه الحالة ولكن لا بد من طلب المعاش قهراً عني فقال لها أخوها: بعد العز تصبحين ذليلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم بكى وبكت وقالت له: يا أخي نحن غرباء وقد أقمنا هنا سنة كاملة ما دق علينا الباب أحد فهل نموت من الجوع؟ فليس عندي من الرأي غلا أني أخرج وأخدم وآتيك بشيء تقتات به إلى أن تبرأ منمرضك ثم نسافر إلى بلادنا ومكثت تبكي ساعة، ثم بعد ذلك قامت نزهة الزمان وغطت رأسها بقطعة عباءة من ثياب الجمالين كان صاحبها نسيها عندهما وقبلت راس أخيها وغطته وخرجت من عنده وهي تبكي ولم أين تمضي وما زال أخوها ينتظرها إلى أن قرب وقت العشاء، ولم تأت فمكث بعد ذلك هو ينتظرها إلى أن طلع النهار فلم تعد إليه ولم يزل على هذه الحالة يومين فعظم ذلك عنده وارتجف قلبه عليهاواشتد به الجوع، فخرج من الحجرة وصاح على صبي الخان وقال له: أريد أن تحملني إلى السوق فحمله والقاه في السوق فاجتمع عليه أهل القدس وبكوا عليه لما رأوه على تلك الحالة وأشار إليهم بطلب شيء يأكله فجاؤوا له من التجار الذين في السوق ببعض دراهم واشتروا له شيئاً وأطعموه إياه، ثم حملوه ووضعوه على دكان وفرشوا له قطعة برش ووضعوا عند رأسه إبريقاً.
فلما أقبل الليل انصرف عنه الناس وهم حاملون همه، فلما كان نصف الليل تذكر أخته فازداد به الضعف وامتنع من الأكل والشرب وغاب عن الوجود فقام أهل السوق وأخذوا له من التجار ثلاثين درهماً، واكتروا له له جملاً وقالوا للجمال: احمل هذا وأوصله إلى دمشق وأدخله المارستان لعله أن يبرأ فقال لهم: على الرأس ثم قال في نفسه: كيف أمضي بهذا المريض وهو مشرف على الموت؟ ثم خرج به إلى مكان واختفى به إلى الليل ثم ألقاه على مزبلة مستوقد حمام ثم مضى إلى حال سبيله. فلما أصبح الصباح طلع وقاد الحمام إلى شغله فوجده ملقى على ظهره فقال في نفسه: لأي شيء ما يرمون هذا الميت إلا هنا؟ ورفسه برجله فتحرك فقال الوقاد الواحد منكم يأكل قطعة حشيش ويرمي نفسه في أي موضع كان ثم نظر إلى وجهه فرآه لا نبات بعارضيه، وهو ذو بهاء وجمال فأخذته الرأفة عليه وعرف أنه مريض وغريب فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إني دخلت في خطيئة هذا الصبي وقد أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام الغريب لا سيما إذا كان الغريب مريضاً ثم حمله وأتى به إلى منزله ودخل به على زوجته وأمرها أن تخدمه وتفرش له بساطاً ففرشت له وجعلت تحت رأسه وسادة وسخنت له ماء وغسلت له يديه ورجليه ووجهه وخرج الوقاد إلى السوق وأتى له بشيء من ماء الورد والسكر، ورش على وجهه وسقاه السكر وأخرج له قميصاً نظيفاً وألبسه إياه فشم نسيم الصحة وتوجهت إليه العافية واتكأ على المخدة ففرح الوقاد بذلك وقال: الحمد لله على عافية هذا الصبي اللهم إني أسألك بسرك المكنون أن تجعل سلامة هذا الشاب على يدي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين قالت: بلغني أيها الملك السعيد وما زال الوقاد يتعهده ثلاثة أيام، وهو يسقيه السكر وماء الحلاف وماء الورد ويتعطف عليه ويتلطف به حتى عادت الصحة في جسمه وفتح عينيه فاتفق أن الوقاد دخل عليه فرآه جالساً وعليه آثار العافية فقال له: ما حالك يا ولدي في هذا الوقت؟ فقال ضوء المكان بخير وعافية فحمد الوقاد ربه وشكره ثم نهض إلى السوق واشترى له عشر دجاجات وأتى إلى زوجته، وقال لها: اذبحي له في كل يوم اثنتين واحدة في أول النهار وواحدة في آخر النهار فقامت وذبحت له دجاجة وسلقتها، وأتت بها إليه وأطعمته إياها وسقته مرقتها فلما فرغ من الأكل قدمت له ماء مسخناً فغسل يديه واتكأ على الوسادة وغطته بملاءة فنام إلى العصر ثم قامت وسلقت دجاجة أخرى وأتته بها وفسختها وقالت له: كل يا ولدي فبينما هو يأكل وإذا بزوجها قد دخل فوجدها تطعمه فجلس عند رأسه وقال له: ما حالك يا ولدي في هذا الوقت؟ فقال: الحمد لله على العافية جزاك الله عني خير.
ففرح الوقاد بذلك ثم إنه خرج وأتى بشراب البنفسج وماء الورد وسقاه وكان ذلك الوقاد يعمل في الحمام كل يوم بخمسة دراهم فيشتري له بدرهم فراريج وما زال يلاطفه إلى أن مضى عليه شهر من الزمان حتى زالت عنه آثار المرض وتوجهت إليه العافية ففرح الوقاد هو وزوجته بعافية ضوء المكان وقال: يا ولدي هل لك أن تدخل معي الحمام؟ قال: نعم فمضى إلى السوق وأتى له بمكاري وأركبه حماراً وجعل يسنده إلى أن وصل إلى الحمام ثم دخل معه الحمام وأجلسه في داخله ومضى إلى السوق واشترى له سدراً ودقاقاً وقال لضوء المكان: يا سيدي بسم الله أغسل لك جسدك وأخذ الوقاد يحك لضوء المكان رجليه، وشرع يفسل له جسده بالسدر والدقاق، وغذا ببلان قد أرسله معلم الحمام إلى ضوء المكان فوجد الوقاد يحك رجليه فتقدم إليه البلان، وقال له: هذا نقص في حق المعلم.
فقال الوقاد: والله إن المعللم غمرنا بإحسانه فشرع البلان يحلق رأس ضوء المكان ثم اغتسل هو والوقاد وبعد ذلك رجع به الوقاد إلى منزله وألبسه قميصاً رفيقاً وثوباً من ثيابه وعمامة لطيفة وأعطاه حزاماً وكانت زوجة الوقاد قد ذبحت دجاجتين وطبختهما.
فلما طلع ضوء المكان وجلس على الفراش قام الوقاد وأذاب له السكر في ماء الورد وسقاه ثم قدم له السفرة وصار الوقاد يفسخ له من ذلك الدجاج ويطعمه ويسقيه من المسلوقة إلى ان اكتفى وغسل يديه وحمد الله تعالى على العافية ثم قال الوقاد: أنت الذي منّ الله بك علي وجعل سلامتي على يديك، فقال الوقاد: دع عنك هذا الكلام وقل لنا ما سبب مجيئك إلى هذه المدينة ومن أنت فإني أرى على وجهك آثار النعمة؟ فقال له ضوء المكان: قل لي أنت كيف وقعت بي حتى أخبرك بحديثي؟ فقال له الوقاد: أما أنا فإني وجدتك مرمياً على القمامة في المستوقد حين لاح الفجر لما توجهت إلى أشغالي ولم أعرف من رماك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والسبعين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوقاد قال: لم أعرف من رماك فأخذتك عندي وهذه حكايتي فقال ضوء المكان: سبحان من يحيي العظام، وهي رميم إنك يا أخي ما فعلت الجميل إلا مع أهله وسوف تجني ثمرة ذلك ثم قال للوقاد: وأنا الآن في أي بلاد؟ فقال الوقاد: أنت في مدينة القدس فعند ذلك تذكر ضوء المكان غربته وفراق أخته وبكى حيث باح بسره إلى الوقاد وحكى له حكايته ثم أنشد هذه الأبيات:
لقد حملوني في الهوى غير طاقتي ومن أجلهم قامت علي الـقـيامة
ألا فارقوا يا هاجرين بمهجـتـي فقد رق لي من بعدكم كل شامت
ولا تمنعوا أن تسمحوا لي بنظـرة تخفف أحوالي فرط سبـابـتـي
سألت فؤادي الصبر عنكم فقال لي إليك فإن الصبر من غير عادتـي
ثم زاد بكائه فقال له الوقاد: لا تبك واحمد الله على السلامة والعافية. فقال ضوء المكان: كم بيننا وبين دمشق؟ فقال: ستة أيام فقال ضوء المكان: هل لك أن ترسلني إليها؟ فقال له الوقاد: يا سيدي كيف أدعك تروح وأنت شاب صغير فإن شئت السفر إلى دمشق فأنا الذي أروح معك وإن أطاعتني زوجتي وسافرت معي أقمت هناك فإنه لا يهون علي فراقك، ثم قال الوقاد لزوجته: هل لك أن تسافري معي إلى دمشق الشام أو تكوني مقيمة هنا، حتى أوصل سيدي هذا إلى دمشق الشام وأعود إليك فإنه يطلب السفر إليها فإني والله لا يهون علي فراقه وأخاف عليه من قطاع الطرق. فقال له زوجته: أسافر معكما فقال الوقاد: الحمد لله على الموافقة ثم أن الوقاد قام وباع أمتعته وأمتعة زوجته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعون قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوقاد اتفق هو وزوجته على السفر مع ضوء المكان وعلى أنهما يمضيان معه إلى دمشق ثم إن الوقاد باع أمتعته وأمتعة زوجته ثم اكترى حماراً وأركب ضوء المكان إياه وسافروا ولم يزالوا مسافرين ستة أيام إلى أن دخلوا دمشق فنزلوا هناك في آخر النهار وذهب الوقاد واشترى شيئاً من الأكل والشرب على العادة وما زالوا على ذلك الحال خمسة أيام وبعد ذلك مرضت زوجة الوقاد أياماً قلائل وانتقلت إلى رحمة الله تعالى فعظم ذلك على ضوء المكان لأنه قد اعتاد عليها وكانت تخدمه، وحزن عليها الوقاد حزناً شديداً فالتفت ضوء المكان إلى الوقاد، فوجده حزيناً فقال له: لا تحزن فإننا كلنا داخلون في هذا الباب فالتفت الوقاد إلى ضوء المكان وقال له: جزاك الله خيراً يا ولدي فالله تعالى يعوض علينا بفضله ويزيل عنا الحزن فهل لك يا ولدي أن تخرج بنا ونتفرج في دمشق، لنشرح خاطرك؟ فقال له ضوء المكان: الرأي رأيك فقام الوقاد ووضع يده في يد ضوء المكان وسارا إلى أن أتيا تحت إصطبل والى دمشق فوجدا جمالاً محملة صناديق وفرشاً وقماشاً من الديباج وغيره وجنائب مسرجة ونجاتي وعبيداً ومماليك والناس في هرج فقال ضوء المكان: يا ترى لمن تكون هؤلاء المماليك والجمال والأقمشة وسأل بعض الخدم عن ذلك، فقال له المسؤول: هذه هدية من أمير دمشق يريد إرسالها إلى الملك عمر النعمان مع خراج الشام فلما سمع ضوء المكان هذا الكلام تغرغرت عيناه بالدموع وأنشد يقول:
إن شكونا البعاد ماذا تـقـول أو تلفنا الشوق فكيف السبـيل
أو رأينا رسلاً تترجـم عـنـا ما يودي شكوى لمحب رسول
أو صبرنا فما من الصبر عندي بعد فقد الأحبـاب إلا قـلـيل
وقال أيضاً:
رحلوا غائبين عن جفن عيني ليس تحلوا والاشتياق يحول
غاب عني جمالهم فحـيانـي أذكر الوجد في حديث يطول
ولما فرغ من شعره بكى، فقال له الوقاد: يا ولدي نحن ما صدقنا أنك جاءتك العافية فطب نفساً ولا تبك فإني أخاف عليك من النكسة، وما زال يلاطفه ويمازحه وضوء المكان يتنهد ويتحسر على غربته وعلى فراقه لأخته ومملكته ويرسل العبرات ثم أنشد هذه الأبيات:
تزود من الدنيا فـإنـك راحـل وأيقن بأن الموت لا شك نـازل
نعيمك في الدنيا غرور وحسـرة وعيشك في الدنيا محال وبـال
ألا إنما الدنيا كمـنـزل راكـب أناخ عيناً وهو في الصبح راحل
ثم إن ضوء المكان جعل يبكي وينتحب على غربته وكذلك الوقاد صار يبكي على فراق زوجته ولكنه مازال يتلطف بضوء المكان إلى أن أصبح الصباح فلما طلعت الشمس قال له الوقاد: كأنك تذكرت بلادك؟ فقال له ضوء المكان: نعم ولا أستطيع أن أقيم هنا وأستودعك الله فإني مسافر مع هؤلاء القوم وأمشي معهم قليلاً قليلاً حتى أصل بلادي. فقال له الوقاد: وأنا معك فإني لا أقدر أن أفارقك فإني عملت معك حسنة، وأريد أن أتممها بخدمتي لك، فقال له ضوء المكان: جزاك الله عني خيراً وفرح ضوء المكان بسفر الوقاد معه ثم إن الوقاد خرج من ساعته واشترى حماراً وهيأ زاداً، وقال لضوء المكان: اركب هذا الحمار في السفر فإذا تعبت من الركوب فانزل وامش فقال له ضوء المكان: بارك الله فيك وأعانني على مكافأتك فإنك فعلت معي من الخير ما لا يفعله أحد مع أخيه ثم صبرا إلى أن جن الظلام فحملا زادهما وأمتعتهما على ذلك الحمار وسافرا. هذا ما كان من أمر ضوء المكان والوقاد.
وأما ما كان من أمر أخته نزهة الزمان فإنها لما فارقت أخاها ضوء المكان خرجت من الخان الذي كانا فيه في القدس بعد أن التفت بالعباءة لأخل أن تخدم أحداً وتشتري لأخيها ما اشتهاه من اللحم المشوي، وصارت تبكي في الطريق وهي لا تعرف أين تتوجه وصار خاطرها مشغولاً بأخيها وقلبها مفتكر في الأهل والأوطان، فصارت تتضرع إلى الله تعالى في دفع هذه البليات وأنشدت هذه الأبيات:
جن الظلام وهاج الوجد بالسـقـم والشوق حرك ما عندي من الألم
ولوعة البين في الأحشاء قد سكنت والوجد صيرني في حالة العـدم
والحزن أقلقني والشوق أحرقنـي والدمع باح بحب لي مكـتـتـم
وليس لي حيلة في الوصل أعرفها حتى تزحزح ما عندي من الغمم
فنار قلبي بـالأشـواق مـوقـدة ومن لظاها يظل الصب في نقـم
يا من يلوم على ما حل بي وجرى إني صبرت على ما خط بالقلـم
أقسمت بالحب مالي سلـوة أبـداً يمين أهل الهوى مبرورة القسـم
يا ليل بلغ رواة الحب عن خبري واشهد بعلمك أني فيك لـم أنـم
ثم إن نزهة الزمان أخت ضوء المكان صارت تمشي وتلتفت يميناً ويساراً وإذا بشيخ مسافر من البدو ومعه خمسة أنفار من العرب قد التفت إلى نزهة الزمان فرآها جميلة وعلى رأسها عباءة مقطعة، فتعجب من حسنها وقال في نفسه: إن هذه جميلة ولكنها ذات قشف فإن كانت من أهل المدينة أو كانت غريبة فلا بد لي منها، ثم إنه تبعها قليلاً قليلاً حتى تعرض لها في الطريق في مكان ضيق وناداها ليسألها عن حالها وقال لها: يا بنية هل انت حرة أم مملوكة؟ فلما سمعت كلامه نظرت إليه وقال له: بحياتك لا تجدد علي الأحزان، فقال لها: إني رزقت ست بنات مات لي منهن خمسة وبقيت واحدة وهي أصغرهن وأتيت إليك لأسألك هل أنت من أهل المدينة أو غريبة لأجل أن آخذك وأجعلك عندها لتؤانسيها فتشتغل بك عن الحزن على أخواتها فإن لم يكن لك أحد جعلتك مثل واحدة منهن وتصيرين مثل أولادي. فلما سمعت نزهة الزمان كلامه قالت في سرها: عسى أن آمن على نفسي عند هذا الشيخ ثم أطرقت برأسها من الحياء وقالت: يا عم أنا بنت غريبة ولي أخ ضعيف فأنا أمضي معك إلى بيتك بشرط أن أكون عندك بالنهار وبالليل أمضي إلى أخي فإن قبلت هذا الشرط مضيت معك لأني غريبة، وكنت عزيزة فأصبحت ذليلة حقيرة وجئت أنا وأخي من بلاد الحجاز وأخاف أن أخي لا يعرف مكاناً لي. فلما سمع البدوي كلامها قال في نفسه: والله إني فزت بمطلوبي، ثم قال لها: ما أريد إلا لتؤانسي بنتي نهاراً وتمضي إلى أخيك ليلاً وإن شئت فانقليه إلى مكاننا. ولم يزل البدي يطيب قلبها ويلين لها الكلام إلى أن وافقته على الخدمة ومشى قدامها وتبعته ولم يزل سائر إلى جماعته وكانوا قد هيئوا الجمال ووضعوا عليها الأحمال ووضعوا فوقها الماء والزاد وكان البدوي قاطع الطريق وخائن الرفيق وصاحب مكر وحيل ولم يكن عنده بيت ولا ولد وإنما قال ذلك الكلام حيلة على هذه البنت المسكينة لأمر قدره الله. ثم إن البدوي صار يحدثها في الطريق إلى أن خرج من مدينة القدس واجتمع برفاقه فوجدهم قد رحلوا الجمال فركب البدوي وأردفها خلفه وساروا معظم الليل فعرفت نزهة الزمان أن كلام البدوي كان حيلة عليها وأنه مكر بها، فصارت تبكي وتصرخ وهم في الطريق قاصدين الجبال خوفاً من أن يراهم أحد، فلما صاروا قريب الفجر نزلوا عن الجمال وتقدم البدوي إلى نزهة الزمان وقال لها: يا مدنية ما هذا البكاء، والله إن لم تتركي البكاء ضربتك إلى أن تهلك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق