Post Top Ad

Latest topics

Search This Blog

الأحد، 18 فبراير 2018

فبراير 18, 2018

حكاية تتعلق بالطيور

حكاية تتعلق بالطيور
 وفي الليلة السابعة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان طاووس يأوي إلى جانب البحر مع زوجته وكان ذلك الموضع كثير السباع وفيه من الوحوش، غير أنه كثير الأشجار والأنهار وذلك الطاووس هو وزوجته يأويان إلى شجرة من تلك الأشجار ليلاً من خوفهما من الوحوش ويغدوان في طلب الرزق نهاراً ولم يزالا كذلك حتى كثر خوفهما فسارا يبغيان موضعاً غير موضعهما ياويان إليه. فبينما هما يفتشان على موضع لإذ ظهرت لهم جزيرة كثيرة الأشجار والأنهار فنزلا في تلك الجزيرة وأكلا من ثمارها وشربا من أنهارها فبينما هما كذلك وإذا ببطة أقبلت عليهما وهي في شدة الفزع، ولم تزل تسعى حتى أتت إلى الشجرة التي عليها الطاووس هو وزوجته فاطمأنت فلم يشك الطاووس في أن تلك البطة لها حكاية عجيبة فسألها عن حالها وعن سبب خوفها فقالت: إنني مريضة من الحزن وخوفي من ابن آدم فالحذر، ثم الحذر من بني آدم فقال لها الطاووس: لا تخافي حيث وصلت إلينا فقالت البطة: الحمد لله الذي فرج عني همي وغمي بقربكما وقد أتيت راغبة في مودتكما.
فلما فرغت من كلامهما نزلت إليها زوجة الطاووس وقالت لها: أهلاً وسهلاً ومرحباً لا بأس عليك ومن أين يصل إلينا ابن آدم ونحن في تلك الجزيرة التي في وسط البحر؟ فمن البر لا يقدر أن يصل إلينا، ومن البحر لا يمكن أن يطلع علينا فابشري وحدثينا بالذي نزل بك واعتراك من بني آدم، فقالت البطة: اعلمي أيتها الطاووسة أني في هذه الجزيرة طول عمري آمنة لا أرى مكروهاً فنمت ليلة من الليالي فرأيت في منامي صورة ابن آدم وهو يخاطبني وأخاطبه وسمعت قائلاً يقول: أيتها البطة احذري من ابن آدم ولا تغتري بكلامه ولا بما يداخله عليك فإنه كثير الحيل والخداع فالحذر الحذر من مكره فإنه مخادع ماكر كما قال الشاعر:
                    يعطيك من طرف اللسان حلاوة     ويروغ منك كما يروغ الثعلب
واعلمي أن ابن آدم يحتال على الحيتان فيخرجها من البحار ويرمي الطير ببندقة من طين ويوقع الفيل بمكره وابن آدم لا يسلم أحد من شره ولا ينجو منه طير ولا وحش وقد بلغتك ما سمعته عن ابن آدم فاستيقظت من منامي خائفة مرعوبة وأنا إلى الآن ما انشرح صدري خوفاً على نفسي من ابن آدم لئلا يدهمني بحيلته ويصيدني بحبائله ولم يأت على آخر النهار إلا وقد ضعفت قوتي وبطلت همتي ثم غني اشتقت إلى الأكل والشرب فخرجت أتمشى وخاطري مكدر وقلبي مقبوض فلما وصلت إلى ذلك الجبل وجدت على باب المغارة شبلاً أصفر اللون، قلما رآني ذلك الشبل فرح بي فرحاً شديداً وأعجبه لوني وكوني لطيفة الذات فصاح علي وقال لي: اقربي مني، فلما قربت منه قال لي: ما اسمك وما جنسك؟ فقلت له: اسمي بطة وأنا من جنس الطيور، ثم قالت له: ما سبب قعودك إلى هذا الوقت في هذا المكان؟ فقال الشبل: سبب ذلك أن والدي الأسد له أيام وهو يحذرني من ابن آدم فاتفق أنني رأيت في هذه الليلة في منامي صورة ابم آدم ثم إن الشبل حكى لي نظير ما حكيته لك فلما سمعت كلامه قلت له: يا أسد لإني قد لجأت إليك في أن تقتل ابن آدم وتجزم رأيك في قتله فإني أخاف على نفسي منه خوفاً شديداً وازددت خوفاً على خوفي من خوفك من ابن آدم مع أنك سلطان الوحوش وما زلت يا أختي أحذر الشبل من ابن آدم وأوصيته بقتله حتى قام من وقته وساعته من المكان الذي كان فيه، وتمشى وتمشيت وراءه، ففرقع بذنبه على ظهره ولم يزل يمشي وأنا أمشي وراءه إلى مرق الطريق فوجدنا غبرة طارت وبعد ذلك انكشفت الغبرة فبان من تحتها حمار شارد عريان وهو تارة يقمص ويجري وتارة يتمرغ فلما رآه الأسد صاح عليه فأتى إليه خاضعاً.
فقال له: أيها الحيوان الخريف العقل ما جنسك وما سبب قدومك إلى هذا المكان؟ فقال: يا ابن السلطان أنا جنسي حمار وسبب قدومي إلى هذا المكان هروبي من ابن آدم فقال له الشبل: وهل أنت خائف من ابن آدم أن يقتلك؟ فقال الحمار: لا يا ابن السلكان وإنما خوفي أن يعمل حيلة علي ويركبني لأن عنده شيئاً يسميه البردعة فيجعلها على ظهري وشيئاً يسميه الحزام، فيشده على بطني وشيئاً يسميه الطفر فيجعله تحت ذنبي وشيئاً يسميه اللجام فيجعله في فمي ويحمل منخاساً ينخسني به ويكلفني ما لا أطيق من الجري وإذا عثرت لعنني وإذا نهقت شتمني وبعد ذلك إذا كبرت ولم أقدر على الجري يجعل لي رجلاً من الخشب ويسلمني إلى السقائين فيحملون الماء على ظهري من البحر في القرب ونحوها كالجرار ولا أزال في ذل وهوان وتعب حتى أموت فيرموني فوق التلال للكلاب فأي شيء أكبر من هذا الهم، وأي مصيبة أكبر من هذه المصائب؟ فلما سمعت أيتها الطاووسة كلام الحمار اقشعر جسدي من ابن آدم وقلت للشبل: يا سيدي إن الحمار معذور وقد زادني كلامه رعباً على رعبي، فقال الشبل للحمار: إلى أين أنت سائر؟ فقال له الحمار: إني نظرت ابن آدم قبل إشراق الشمس من بعيد ففرت هرباً منه، وهاأنا أريد أنطلق ولم أزل أجري من مدة خوفي منه فعسى أن أجد لي موضعاً يأويني من ابن آدم الغدار فبينما ذلك الحمار يتحدث مع الشبل ذلك الكلام وهو يريد أن يودعنا ويروح إذ ظهرت لنا غبرة فنهق الحمار ونظر بعينيه إلى ناحية الغبرة وضرط ضراطاً عالية وبعد ساعة انكشفت الغبرة عن فرس أدهم بغرة كالدرهم وذلك الفرس ظريف الغرة مليح التحجيم حسن القوائم والصهيل ولم يزل يجري حتى وقف بين يدي الشبل ابن الأسد. فلما رآه الشبل استعظمه وقال له: ما جنسك أيها الوحش الجليل وما سبب شرودك في هذا البر العريض الطويل؟ فقال: يا سيد الوحوش أنا فرس من جنس الخيل وسبب شرودي هروبي من ابن آدم فتعجب الشبل من كلام الفرس وقال: لا تقل هذا الكلام فإنه عيب عليك وأنت طويل غليظ وكيف تخاف ابن آدم مع عظم جثتك وسرع جريك؟ وأنا مع صغر جسمي قد عزمت على أن ألتقي مع ابن آدم فأبطش به، وآكل لحمه وأسكن روع هذه البطة المسكينة وأقرها في وطنها وها أنت لما أتيت في هذه الساعة قطعت قلبي بكلامك وأرجعتني عما أردت أن أفعله فإذا كنت أنت مع عظمك قد قهرك ابن آدم ولم يخف من طولك وعرضك مع أنك لو رفسته برجلك لقتلته ولم يقدر عليك بل تسقيه كأس الردى. فضحك الفرس لما سمع كلام الشبل وقال: هيهات أن أغلبه يا ابن الملك فلا يغرك طولي ولا عرضي ولا ضخامتي مع ابن آدم، لأنه من شدة حيله ومكره يصنع لي شيئاً يقال له: الشكال ويضع في أربعة من قوائمي شكالين من حبال الليف الملفوفة باللباد ويصلبني من رأسي في وتد عال وأبقى واقفاً وأنا مصلوب لا أقدر أن أقعد ولا أنام وإذا أراد أن يركبني يعمل لي شيئاً في رجلي من الحديد السمه الركاب ويضع على ظهري شيئاً اسمه السرج، ويشده بحزامين من تحت إبطي ويضع في فمي شيئاً من الحديد يسميه اللجام ويضع فيه شيئاً من الجلد يسميه السرج فإذا ركب فوق ظهري على السرج يمسك السرج بيده ويقودني ويهمزني بالركاب في خواصري حتى يدميها ولا تسأل يا ابن السلطان فيما أقاسيه من ابن آدم، فإذا كبرت وانتحل ظهري ولم أقدر على سرعة الجري يبيعني للطحان ليدورني في الطاحون فلا أزل دائراً فيها ليلاً ونهاراً إلى أن أهرم فيبيعني للجزار فيذبحني ويسلخ جلدي وينتف ذنبي ويبيعها للغرابلي والمناخلي ويسلي شحمي فلما سمع الشبل كلام الفرس ازداد غيظاً وغماً وقال له: متى فارقت ابن آدم؟ قال: فارقته نصف النهار وهو في أثري.
فبينما الشبل يتحدث مع الفرس في هذا الكلام وإذا بغبرة ثارت وبعد ذلك انكشفت الغبرة وبان من تحتها جمل هائج وهو يبعبع ويخبط برجليه في الأرض ولم يزل يفعل كذلك حتى وصل إلينا، فلما رآه الشبل كبيراً غليظاً ظن أنه ابن آدم فأراد الوثوب عليه فقلت له: يا ابن السلطان هذا ما هو ابن آدم وإنما هو جمل وكأنه هارب من ابن آدم.
فبينما أنا يا أختي مع الشبل في هذا الكلام وإذا بالجمل تقدم بين أيادي الشبل وسلم عليه فرد السلام وقال له: ما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ قال: جئت هارباً من ابن آدم، فقال له الشبل: وأنت مع عظم خلقتك وطولك عرضك كيف تخاف من ابن آدم ولو رفسته برجلك رفسة لقتلته فقال له: الجمل: يا ابن السلطان اعلم أن ابن آدم له دواهي لا تطاق وما يغلبه إلا الموت لأنه يضع في رأسي مقوداً ويسلمني إلى أصغر أولاده فيجرني الولد الصغير بالخيط مع كبري وعظمي ويحملونني أثقل الأحمال ويسافرون بي الأسفار الطوال ويستعملونني في الأشغال الشاقة إناء الليل وأطراف النهار، وإذا كبرت وشخت وانكسرت فلم يحفظ صحبتي بل يبيعني للجزار فيذبحني ويبيع جلدي للدباغين ولحمي للطباخين ولا تسأل عما أقاسي من ابن آدم،فقال له الشبل: أي وقت فارقت ابن آدم؟ فقال له الشبل: فارقته رقت الغروب وأظنه يأتس عند انصرافي فلم يجدني فيسعى في طلبي فدعني يا ابن السلطان حتى أهيج في البراري والقفار، فقال الشبل: تمهل قليلاً يا جمل حتى تنظر كيف أفترسه وأطعمك من لحمه وأهشم عظمه وأشرب من دمه، فقال له الجمل: يا ابن السلطان أنا خائف عليك منه فإنه مخادع ماكر ثم انشد قول الشاعر:  
                     إذا حل الثقيل بأرض قـوم          فما للساكنين سوى الرحيل
فبينما الجمل يتحدث مع الشبل في هذا الكلام وإذا بغبرة طلعت وبعد ساعة انكشفت عن شيخ قصير رقيق البشرة على كتفه مقطف فيه عدة نجار وعلى رأسه شعبة وثمانية ألواح وبيده أطفال صغار وهو يهرول في مشيه وما زال يمشي حتى قرب من الشبل فلما رأيته يا أختي وقعت من شدة الخوف واما الشبل فإنه قام وتمشى إليه ولاقاه، فلما وصل إليه ضحك النجار في وجهه وقال بلسان فصيح: أيها الملك الجليل صاحب الباع الطويل أسعد الله مساءك ومسعاك وزاد في شجاعتك وقواك أجرني مما دهاني وبشره رماني لأني ما وجدت لي نصيراً غيرك ثم إن النجار وقف بين يدي الأسد وبكى وأنّ واشتكى. فلما سمع الشبل بكاءه وشكواه قال له: أجرتك مما تخشاه فمن الذي ظلمك وما تكون أيها الوحش الذي ما رأيت عمري مثلك ولا أحسن صورة وأفصح لساناً منك فما شانك؟ فقال له النجار: يا سيد الوحوش أما أنا فنجار وأما الذي ظلمني فإنه ابن آدم وفي صباح هذه الليلة يكون عندك في هذا المكان، فلما سمع الشبل من النجار هذا الكلام تبدل الضياء في وجهه بالظلام وشخر ونخر ورمت عيناه بالشرر وصاح وقال: والله لأسهرن في هذه الليل إلى الصباح ولا أرجع إلى والدي حتى أبلغ مقصدي ثم إن الشبل التفت إلى النجار وقال له: أرى خطواتك قصيرة ولا أقدر أن اكسر باطرك لأني ذو مروءة أظن أنك لا تقدر أن تماشي الوحوش فأخبرني إلى أين تذهب، فقال له النجار: اعلم أني رائح إلى وزير والدك الفهد لأنه لما بلغه أن ابن آدم داس هذه الأرض خاف على نفسه خوفاً عظيماً وأرسل إلي رسولاً من الوحوش لأصنع له بيتاً يسكن فيه ويأوي إليهو يمنع عنه عدوه حتى لا يصل إليه أحد من بني آدم فلما جاءني الرسول أخذت هذه الألواح وتوجهت إليه فلما سمع الشبل كلام النجار أخذه الحسد للفهد فقال له: بحياتي لا بد أن تصنع لي هذه الألواح بيتاً قبل أن تصنع للفهد بيته وإذا فرغت من شغلي فامض إلى الفهد واصنع له ما يريد، فلما سمع النجار من الشبل هذا الكلام قال له: يا سيد الوحوش ما أقدر أن أصنع لك شيئاً إلا إذا صنعت للفهد ما يريد ثم أجئ إلى خدمتك وأصنع لك بيتاً يحصنك من عدوك فقال له الشبل: والله ما أخليك تروح من هذا المكان حتى تصنع لي هذه الألواح بيتاً ثم أن الشبل هم على النجار، ووثب وأراد أن يمزح معه فلطشه بيده فرمى المقطف من على كتفه ووقع النجار مغشياً عليه فضحك الشبل عليه وقال له: ويلك يا نجار إنك ضعيف وما لك قوة فانت معذور إذا خفت من ابن آدم.
فلما وقع النجار على ظهره اغتاظ غيظاً شديداً ولكنه كتم ذلك عن الشبل من خوفه منه ثم قعد النجار في وجه الشبل وقال له: هاأنا أصنع لك البيت، ثم إن النجار تناول الألواح التي كانت معه وسمر البيت، وجعله مثل القالب قياس الشبل وخلى بابه مفتوحاً لأنه جعله على صورة صندوق وفتح له طاقة كبيرة وجعل له غطاء وثقب ثقباً كثيراً وأخرج منها مسامير مطرفة وقال للشبل: أدخل في هذا البيت من هذه الطاقة لأقبيه عليك ففرح الشبل بذلك واتى تلك الطاقة فرآها ضيقة فقال له النجار: ادخل وابرك على يديك ورجليك ففعل الشبل ذلك ودخل الصندوق وبقي ذنبه خارجاً، ثم أراد الشبل أن يتأخر إلى ورائه ويخرج، فقال له النجار: أمهلحتى أنظر هل يسع ذنبك معك أم لا فامتثل الشبل أمره ثم إن النجار لف ذنب الشبل وحشاه في الصندوق ورد اللوح على الطاقة سريعاً وسمره فصاح الشبل قائلاً: يا نجار ما هذا البيت الضيق الذي صنعته لي دعني أخرج منه فقال له النجار: هيهات لا ينفع الندم على ما فات إنك لا تخرج من هذا المكان ثم ضحك النجار وقال للشبل: إنك وقعت في القفص وكنت أخبث الوحوش فقال له: يا أخي ما هذا الخطاب الذي تخاطبني به؟ فقال له النجار: اعلم يا كلب البر أنك وقعت فيما كنت تخاف منه وقد رماك القدر ولم ينفعك الحذر.
فلما سمع الشبل كلامه يا أختي علم أنه ابن آدم الذي حذره منه أبوه في اليقظة والهاتف في المنام وتحققت أنه هو بلا شك ولا ريب فخفت منه على نفسي خوفاً عظيماً وبعدت عنه قليلاً وصرت أنتظر ماذا يفعل بالشبل فرأيت يا أختي ابن آدم حفر حفرة في هذا المكان بالقرب من الصندوق الذي فيه الشبل ورماه في تلك الحفرة وألقى عليه الحطب وأحرقه بالنار فكبر يا أختي خوفي ولي يومان هاربة من ابن آدم وخائفة منه فلما سمعت الطاووسة من البطة هذا الكلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أن الطاووسة لما سمعت من البطة هذا الكلام تعجبت منه غاية العجب وقالت: يا أختي إنك أمنت من بني آدم لأننا في جزيرة من جزائر البحر وليس لابن آدم فيها مسلك فاختاري المقام عندنا إلى أن يسهالله أمرك وأمرنا، قالت: أخاف أن يطرقني طارق والقضاء لا ينفعك عنه آبق، فقالت اقعدي عندنا وأنت مثلنا ولا زالت بها حتى قعدت وقالت: يا أختي أنت تعلمين قلة صبري ولولا أني رأيتك هنا ما كنت قعدت فقالت الطاووسة: إن كان جبيننا شيء نستوفاه وإن كان أجلنا فمن يخلصنا ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها فبينما هما في هذا الكلام إذ طلعت عليهما غبرة فعند ذلك صاحت البطة ونزلت البحر وقالت: الحذر والحذر وإن لم يكن مفر من القدر وكانت الغبرة عظيمة فلما انكشفت الغبرة ظهر من تحتها ظبي فاطمأنت البطة والطاووسة، ثم قالت البطة: يا أختي إن الذي تفزعين منه ظبي وها هو قد أقبل نحونا فليس علينا منه بأس لأن الظبي إنما يأكل الحشائش من نبات الأرض وكما أنت من جنس الطير هو الآخر من جنس الوحوش فاطمئني ولا تهتمي فإن الهم ينحل البدن فلم تتم الطاووسة كلامها حتى وصل الظبي إليها يستظل تحت الشجرة، فلما رأى البطة والطاووسة سلم عليهما وقال لهما: إني دخلت هذه الجزيرة اليوم فلم أر أكثر منها خصباً ولا أحسن منها مسكناً ثم دعاهما لمرافقته ومضافاته، فلما رأت البطة والطاووسة تودده إليهما أقبلتا عليه ورغبتا في عشرته وتحالفوا على ذلك وصار مبيتهم واحد ومأكلهم سواء ولم يزالوا آمنين آكلين شاربين حتى مرت بهم سفينة كانت تائهة في البحر فأرست قريباً منهم فطلع الناس وتفرقوا في الجزيرة فرأوا الظبي والطاووسة والبطة مجتمعين فأقبلوا عليهم فشرد الظبي في البرية وطارت الطاووسة وبقيت البطة مخبلة ولم يزالوا بها حتى صادوها وصاحت قائلة: لم ينفعني الحذر من القضاء والقدر وانصرفوا بها إلى سفينتهم. فلما رأت الطاووسة ما جرى للبطة ارتحلت من الجزيرة وقالت: لا أرى الافاق الأمر أصدر لكل أحد ولولا هذه السفينة ما حصل بيني وبين هذه البطة افتراق ولقد كانت من خيار الأصدقاء، ثم طارت الطاووسة واجتمعت بالظبي فسلم عليها وهنأها بالسلامة وسألها عن البطة فقالت له: قد أخذها العدو وكرهت المقام في تلك الجزيرة بعدها، ثم بكت على فراق البطة وأنشدت تقول:
                 إن يوم الفراق قطع قلبي           قطع الله قلب يوم الفراق
وأنشدت أيضاً:
              تمنيت الوصال يعود يوماً             لأخبره بما صنع الفراق
فاغتم الظبي غماً شديداً، ثم رد عزم الطاووسة عن الرحيل فأقام معها في تلك الجزيرة آمنين آكلين شاربين غير أنهما لم يزالا حزينين على فراق البطة فقال الظبي الطاووسة: يا أختي قد علمت أنالناس الذين طلعوا لنا من المركب كانوا سبب فراقنا ولهلاك البطة فاحذريهم واحترسي منهم ومن مكر ابن آدم وخداعه، قالت: قد علمت يقيناً أن ما قتلها غير تركها التسبيح، ولقد قلت لها: إني أخاف عليك من تركك التسبيح لأن كل ما خلقه الله يسبحه فإن غفل عن التسبيح عوقب بهلاكه.
فلما سمع الظبي كلام الطاووسة قال: أحسن الله صورتك وأقبل على التسبيح لا يفتر عنه ساعة وقد قيل أن الظبي يقول في تسبيحه: سبحان الملك الديان ذي الجبروت والسلطان وورد أن بعض العباد كان يتعبد في الجبال وكان ما كان يأوي إلى ذلك الجبل زوج من الحما وكان ذلك العابد قسم قوته نصفين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العابد قسم قوته إلى نصفين وجعل نصفه لنفسه ونصفه لذلك الزوج الحمام ودعا العابد لهما بكثرة النسل فكثر نسلهما ولم يكن الحمام يأوي إلى غير الجبل الذي فيه العابد وكان السبب في اجتماع الحمام بالعابد كثرة تسبيح الحمام وقيل أن الحمام يقول في تسبيحه: سبحان خالق الخلق وقاسم الرزق وباني السموات وباسط الأرضين، ولم يزل ذلك الزوج الحمام في أرغد عيش هو ونسله حتى مات ذلك العابد فتشتت شمل الحمام وتفرق في المدن والقرى والجبال.
 و قيل: أنه كان في بعض الجبال رجل من الرعاة صاحب دين وعقل وعفة وكان له غنم يرعاها وينتفع بألبانها وأصوافها وكان ذلك الجبل الذي يأوي إليه الراعي كثير الأشجار والمرعى والسباع ولم يكن لتلك الوحوش قدرة على الراعي ولا على غنمه ولم يزل مقيماً في الجبل مطمئناً لا يهمه شيء من أمر الدنيا لسعادته وإقباله على عبادته فاتفق أنه مرض مرضاً شديداً، فدخل كهفاً في الجبل وصارت الغنم تخرج بالنهار إلى مرعاها وتأوي بالليل إلى الكهف فأراد الله أنيمتحن ذلك الراعي ويختبره في طاعته وصبره فبعث إليه ملكاً فدخل عليه في صورة امرأة حسناء وجلس بين يديه، فلما رأى الراعي تلك المرأة جالسة عنده اقشعر بدنه منها فقال لها: أيتها المرأة ما الذي دعاك إلى المجيء هنا وليس لك حاجة معي، ولا بيني وبينك ما يوجب دخولك علي، فقالت له المرأة: أيها الرجل الإنسان اما ترى حسني وجمالي وطيب رائحتي؟ أما تعلم حاجة الرجال إلى النساء فما الذي يمنعك مني؟ فقال الراعي: إن الذي تقولينه كرهته وجميع ما تبدينه زهدته لأنك خداعة غدارة لا عهد لك ولا وفاء، فككم من قبيح تحت حسنك أخفيته؟ وكم صالح فتنته وكانت عاقبته إلى الندامة والحزن فارجعي عني أيتها المصلحة نفسها لفساد غيرها ثم ألقى عباءته على وجهه حتى لا يرى وجهها واشتغل بذكر ربه.
فلما رأى الملك حسن طاعته، خرج وعرج إلى السماء وكان بالقرب من الراعي قرية فيها رجل من الصالحين لم يعلم بمكانه فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له بالقرب منك في مكان كذا وكذا رجل صالح فاذهب إليه وكن تحت طاعة امره، فلما اصبح الصباح توجه نحوه سائراً فلما اشتد عليه الحر انتهى إلى شجرة عندها عين جارية فجلس في ظل الشجرة ليستريح، فبينما هو جالس وإذا بوحوش وطيور أتوا إلى تلك العين ليشربوا منها، فلما رأوا العابد جالساً نفروا ورجعوا شاردين فقال العابد في نفسه: أنا ما استرحت هنا إلا لتعب هذه الوحوش والطيور، ثم قام وقال معاتباً لنفسه: لقد أضر بهذه الحيوانات في هذا اليوم جلوسي في هذا المكان فما عذري عند خالقي وخالق هذه الطيور والوحوش فإني كنت سبباً لشرودهم عن مائهم ومرعاهم فواخجلتي من ربي يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرفاء ثم أفاض من جفنه العبرات وأنشد هذه الأبيات:  
                      أما والله لو علـم الأنـام          لم خلقوا لا غفلوا وناموا
                     فموت ثم بعث ثم حشـر         وتوبيخ وأهوال عظـام
                     ونحن إذا نهينا أوامرنـا          كاهل الكهف أكثرنا نيام
ثم بكى على جلوسه تحت الشجرة عند العين ومنعه الطيور والوحوش من شربها وولى هائماً على وجهه حتى أتى الراعي فدخل عنده وسلم عليه فرد عليه السلام وعانقه وبمى ثم قال له الراعي: ما الذي أقدمك إلى هذا المكان الذي لم يدخله أحد من الناس علي؟ فقال العابد: إني رأيت في منامي من يصف لي مكانك ويأمرني بالسير إليك والسلام عليك وقد أتيتك ممتثلاً لما أمرت به، فقبله الراعي وطابت نفسه بصحبته وجلس معه في الجبل يعبدان الله تعالى في ذلك الغار وحسنت عبادتهما، ولم يزالا في ذلك المكان يعبدان ربهما ويتقوتان من لحوم الغنم وألبانها متجردين عن المال والبنين إلى أن أتاهما اليقين وهذا آخر حديثهما. قال الملك: لقد زهدتني يا شهرزاد في ملكي وندمتني على ما فرط مني في قتل النساء والبنات فهل عندك شيء من حديث الطيور؟ قالت: نعم زعموا أيها الملك أن طيراً طار وعلا إلى الجو ثم انقض على صخرة في وسط الماء وكان الماء جارياً، فبينما الطائر واقف على الصخرة وإذا برمة إنسان جرها الماء حتى أسندها إلى الصخرة ووقفت تلك الجيفة في جانب الصخرة وارتفعت لانتفاخها فدنا الطير وتاملها فرآها رمة ابن آدم وظهر له فيها ضرب السيف وطعن الرماح فقال في نفسه: إن هذا المقتول كان شريراً فاجتمع عليه جماعة وقتلوه واستراحوا منه ومن شره، ولم يزل طير الماء يكثر التعجب من تلك الرمة حتى رأى نسوراً وعقباناً أحاطوا بتلك الجيفة من جميع جوانبها، فلما رأى طير الماء جزه جزعاً شديداً وقال: لا صبر لي على الإقامة في هذا المكان، ثم طار منه يفتش على موضع يأويه إلى حين نفاذ تلك الجيفة وزوال سباع الطير عنها ولم يزل طائراً حتى وجد نهراً في وسطه شجرة، فنزل عليها كئيباً حزيناً على بعده عن وطنه وقال في نفسه: لم تزل الأحزان تتبعني وكنت قد استرحت لما رأيت تلك الجيفة وفرحت بها فرحاً شديداً وقلت: هذا رزق ساقه الله إلي فصار فرحي غماً وسروري حزناً وهماً وافترستها سباع الطير مني وحال بينها وبيني فكيف أرجو أن أكون سالماً في هذه الدنيا وأطمئن إليها، وقد قيل في المثل:الدنيا دار من لا دار له يغتر بها من لا عقل له ويطمئن بماله وولده وقومه وعشيرته ولم يزل المغتر بها راكناً إليها يختال فوق الأرض حتى يصير تحتها ويجثوا عليه التراب لتراب أعز الناس عليه وأقربهم إليه وما للفتى خير من الصبر على مكارهها وقد فارقت مكاني ووطني وكنت كارهاً لفرقة أخواني وأصحابي.
فبينما هو في فكرته وإذا بذكر من السلاحف أقبل منحدر في الماء ودنا من طير الماء وسلم عليه وقال: يا سيدي ما الذي أبعدك عن موضعك؟ قال: حلول الأعداء فيه ولا صبر للعاقل على مجاورة عدوه، وما أحسن قول بعض الشعراء:
                 إذا حل الثقيل بأرض قـوم           فما للساكنين سوى الرحيل
فقال له السلحف: إذا كان الأمر كما وصفته والحال مثل ما ذكرته فأنا لا أزال بين يديك ولا أفارقك لأقضي حاجتك وأوفي بخدمتك، فإنه يقال لا وحشة أشد من وحشة الغريب المنقطع عن أهله ووطنه، وقد قيل إن فرقة الصالحين لا يعد لها شيء من المصائب ومما يسمى العاقل نفسه الإستئناس في الغربة والصبر على الزرية والكربة وأرجو أن تجمد صحبتي لك وأكون لك خادماً ومعيناً.
فلما سمع طير الماء مقالة السلحف قال له: لقد صدقت في قولك ولعمري إني وجدت للفراق ألماً وهماً وهما مدة بعدي عن مكاني وفراقي لأخواني وخلاني لأن فيه الفراق عبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر وإذا لم يجد الفتى من يسليه من الأصحاب ينقطع عنه الخير ويثبت له الشر سرمداً، وليس للعاقل إلا التسلي بالأخوان عن الهموم في جميع الأحوال وملازمة الصبر والتجلد فإنهما خصلتان محمودتان يعينان نوائب الدهر ويدفعان الفزع والجزع من كل أمر.
فقال له السلحف: إياك والجزع فإنه يفسد عليك عيشك ويذهب مروءتك وزالا يتحدثان مع بعضهما إلى أنقال طير الماء للسلحف: أنا لم أزل أخشى نوائب الزمان وطوارق الحدثان، فلما سمع السلحف مقالة طير الماء أقبل عليه وقبله بين عينيه وقال له: لم تزل جماعة الطير تعرف مشورتك الخير فكيف تحمل الهم والضير. ولم يسكن روع طير الماء حتى اطمأن، ثم إن طير الماء طار إلى مكان الجيفة فلما وصل إليه لم ير من سباع الطير شيئاً ولا من تلك الجيفة إلا عظماً فرجع يخبر السلحف بزوال العدو من مكانه فلما وصل إلى السلحف أخبره بما رأى وقال: إني أحب الرجوع إلى مكاني وأتملى بخلاني لأنه لا صبر للعاقل عن وطنه فذهب معه إلى ذلك المكان فلم يجد شيئاً مما يخاف منه فصار طير الماء قرير العين وأنشد هذين البيتين:
                ولرب نازلة يضيق لها الفتى          ذرعاً وعند الله منها المخرج
                ضاقت فلما استحكمت حلقاتها         فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ثم سكنا الجزيرة، فبينما طير الماء في أمن وسرور وفرح وحبور إذ ساق إليه بازاً جائعاً فضربه بمخلبه ضربة فقتله ولم يغن العنه الحذر عند فراغ الأجل وسبب قتله غفلته عن التسبيح، قيل انه كان يقول في تسبيحه: سبحان ربنا فيما قدر ودبر، سبحان ربنا فيما أغنى وأفقر، هذا ما كان ما كان من حديث الطير، فقال الملك: لقد زدتني بحكايتك مواعظ واعتبار فهل عند شيء من حكايات الوحوش؟ حكاية الثعلب مع الذئب وابن آوى فقالت: اعلم ايها الملك أن ثعلباً وذئباً ألفا وكراً فكانا يأويان إليه مع بعضهما فلبثا على ذلك مدة من الزمان وكان الذئب للثعلب قاهر، فاتفق أن الثعلب أشار على الذئب بالرفق وترك الفساد وقال له: إن دمت على عتوك ربما سلط الله عليك ابن آدم فإنه ذو حيل ومكر وخداع يصيد الطير من الجو والحوت من البحر ويقطع الجبال وينقلها وكل ذلك من حيله، فعليك بالإنصاف وترك الشر والإعتساف فإنه أهنأ لطعامك، فلم يقبل الذئب قوله وأغلظ له الرد وقال له: لا علاقة لك بالكلام في عظيم الأمور وجسيمها ثم لطم الثعلب لطمة فخر منها مغشياً عليه.
فلما أفاق تبسم في وجه الذئب واعتذر إليه من الكلام الشين وأنشد هذين البيتين:  
               إذا كنت قد أذنبت ذنباً سالـفـاً          في حبكم وأتيت شيئاً منكـرا
               أنا تائب عما جنيت وعفوكـم          يسع المسيء إذا أتى مستغفرا
فقبل الذئب اعتذاره كف عنه أشراره وقال له: لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الذئب قال للثعلب: لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك فقال له الثعلب: سمعاً وطاعة فأنا بمعزل عما فقد قال الحكيم: لا تخبر عما لا تسأل عنه أو لا تجب إلى ما لا تدعى إليه وذر الذي لا يعنيك إلى ما لا يعنيك ولا تبذل النصيحة للأشرار فإنهم يجزونك عليها شراً، فلما سمع الذئب كلام الثعلب تبسم في وجهه ولكنه أضمر له مكراً وقال: لا بد أن أسعى في هلاك هذا الثعلب.
و أما الثعلب فإنه صبر على أذى الذئب وقال في نفسه: إن البطر والافتراء يجلبان الهلاك ويوقعان في الإرتباك، فقد قيل: من بطر خسر، ومن جهل ندم، ومن خاف سلم، والإنصاف من شيم الأشراف والآداب أشرف الاكتساب ومن الرأي مداراة هذا الباغي ولابد له مصرع، ثم أن الثعلب قال للذئب: إن الرب يعفو ويتوب على عبده إن اقترف الذنوب وانا عبد ضعيف وقد ارتكبت في نصحك التعسيف ولو علمت بما حصل لي من لطمتك لعلمت أنالفيل لا يقوم به ولايقدر عليه ولكني لا أشتكي من ألم هذه اللطمة بسبب ما حصل لي بها من السرور، وقد قال الحكيم: ضرب المؤدب أوله صعب شديد وآخره أحلى من العسل المصفى.
فقال الذئب: غفرت ذنبك وأقلت عثرتك فكن من قوتي على حذر واعترف لي بالعبودية فقد علمت قهري لمن عاداني، فسجد له الثعلب وقال له: أطال الله عمرك ولا زلت قاهراً لمن عاداك، ولم يزل الثعلب خائفاً من الذئب مصانعاً له، ثم إن الثعلب ذهب إلى كرم يوماً فرأى في حائطه ثلمة فأنكرها وقال في نفسه: إن هذه الثلمة لا بد لها من سبب، وقد قيل: من رأى خرقاً في الأرض فلم يجتنبه ويتوق عن الإقدام عليه كان بنفسه مغروراً وللهلاك متعرضاً. وقد اشتهر أن بعض الناس يعمل صورة الثعلب في الكرم ويقدم إليه العنب في الأطباق لأجل أن يرى ثعلباً آخر فيقدم إليه فيقع في الهلاك،و إني أرى هذه الثلمة مكيدة، وقد قيل: إن الحذر نصف الشطارة ومن الحذر أن أبحث على هذه الثلمة وانظر لعلي أجد عندها أمر يؤدي إلى التلف ولا يحملني الطمع على أن ألقي نفسي في الهلكة، ثم دنا منها وطاف بها وهو محاذر فرآها فإذا هي حفرة عظيمة قد حفرها صاحب الكرم ليصيد فيها الوحش الذي يفسد الكرم ورأى عليها غطاء رقيقاً فتأخر عنها وقال: الحمد لله حيث حذرتها وأرجو أن يقع فيها عدوي الذئب الذي نغص عيشي، فأستقل بالكرم وحدي وأعيش فيه آمناً. ثم هز رأسه وضحك ضحكاً عالياً واطرب بالنغمات وأنشد هذه الأبيات:  
                ليتني أبصرت هذا الوقت         في ذي الـبـئر ذئبـا
                وسقاني المر غصباً ليتني         من بـعـد ذا أبـقـى
                طالما قد ساء قـلـبـي             ويقضي الذئب نحـبـا
                ثم يخلو الكرم منه              وأرى لي فيه نهبا
فلما فرغ من شعره انطلق مسرعاً حتى وصل إلى الذئب وقال: إن الله سهل لك الأمور إلى الكرم بلا تعب وهذا من سعادتك فهنيئاً لك بما فتح الله عليك وسهل لك من تلك الغنيمة والرزق الواسعبلا مشقة، فقال الذئب للثعلب: وما الدليل على ما وصفت؟ قال: إني انتهيت إلى الكرم فوجدت صاحبه قد مات ودخلت البستان فرأيت الأثمار زاهية على الأشجار فلم يشك الذئب في قول الثعلب وأدركه الشر فقام حتى انتهى إلى الندامة وقد غره الطمع ووقف الثعلب متهافتاً كالميت وتمثل بهذا البيت:  
              أتطمع من ليلى بوصلي وإنما          تضر بأعناق الرجال المطامع
فلما انتهى الذئب إلى الثلمة قال له الثعلب: ادخل إلى الكرم فقد كفيت مؤونة هدم حائط البستان وعلى الله تمام الإحسان فأقبل الذئب ماشياً يريد الدخول إلى الكرم فلما توسط غطاء الثلمة وقع فيها فاضطرب الثعلب اضطراباً شديداً من السرور والفرح وزوال الهم والترح، ثم إنه تطلع في الحفرة فرأى الذئب يبكي ندماً وحزناً على نفسه فبكى الثعلب معه فرفع الذئب رأسه إلى الثعلب وقال له: أمن رحمتك لي بكيت يا أبا الحصين؟ قال: لا والذي قذفك في هذه الحفرة إنما بكيت لطول عمرك الماضي وأسفاً على كونك لم تقع في هذه الثلمة قبل اليوم ولو وقعت قبل اجتماعي بك لكنت أرحت واسترحت، ولكن أبقيت إلى أجلك المحتوم ووقتك المعلوم. فقال له: أيها الثعلب رح أيها المسيء في فعله لوالدتي وأخبرها بما حصل لي لعلها تحتال على خلاصي فقال له الثعلب: لقد أوقعك في الهلاك شدة طمعك وكثرة حرصك حيث سقطت في حفرة لست منها بسالم ألم تعلم أيها الذئب الجاهل أن صاحب المثل يقول: من لم يفكر في العواقب لم يأمن المعاطب؟ فقال الذئب للثعلب: يا أبن الحصين إنما كنت تظهر محبتي وترغب في مودتي وتخاف من شدة قوتي فلا تحقد علي بما فعلته معك فمن قدر وعفا كان أجره على الله وقد قال الشاعر:
                     ازرع جميلاً ولو في غير موضعه         ما خاب قط جميل أينـمـا زرع
                     إن الجميل وإن طال الزمـان بـه           فليس يحـصـده إلا الـذي زرع
فقال له الثعلب: يا أجهل السباع وأحمق الوحوش في البقاع هل نسيت تجبرك وعتوك وتكبرك وأنت لم ترع حق المعاشرة ولم تنتصح بقول الشاعر:
                       لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً          إن الظلوم على حد من النقم
                       تنام عيناك والمظلوم منتبـه           يدعو عليك وعين الله لم تنم
فقال الذئب: يا أبا الحصين لا تؤاخذني بسابق الذنوب فالعفو من الكرام مطلوب وصنع المعروف من حسن الذخائر وما أحسن قول الشاعر:
                 بادر بالخير إذا كنت مقتـدراً         فليس في كل حين أنت مقتدر
و ما زال الذئب يتذلل للثعلب ويقول له: لعلك تقدر على شيء تخلصني به من الهلاك فقال له الثعلب: أيها الفظ الغليظ إني أشبهك في حسن علانيتك وقبح نيتك بالباز مع الحجل، قال الذئب: وام حديث الباز والحجل؟ قال الثعلب: دخلت يوماً كرماً لآكل عنبه فبينما أنا فيه إذ رأيت بازاً انقض على حجل فلما اقتنصه انفلت منه الحجل ودخل وكره واختفى فيه فتبعه الباز وناداه: أيها الجاهل إني رأيتك في البرية جائعاً فرحمتك، والتقطت لك حباً وأمسكتك لتأكل فهربت مني ولم أعرف لهروبك وجهاً إلا الحرمان، فاظهر وخذ ما أتيتك من الحب فكله هنيئاً مريئاً، فلما سمع الحجل قول الباز صدقه وخرج إليه فانشب مخالبه فيه ومكنها مه فقال له الحجل: أهذا الذي ذكرت انك أتيتني به من البرية وقلت لي هنيئاً مريئاً فكذبت على جعل ما تأكله من لحمي في جوفك سماً قاتلاً، فلما أكله وقع ريشه وسقطت قوته ومات لوقته ثم قال له الثعلب: اعلم ايها الذئب أن من حفر حفرة لأخيه قليباً وقع فيها قريباً وأنت غدرت بي أولاً، فقال الذئب للثعلب: دعني من هذا المقال وضرب الأمثال ولا تذكر لي ما سلف مني من قبيح الفعال يكفيني ما أنا فيه من سوء الحال حيث وقعت في ورطة يرثي لي منها العدو فضلاً عن الصديق وانظر لي حيلة أتخلص بها وكن فيها غياثي وإن كان عليك ذلك مشقة فقد يتحمل الصديق لصديقه أشد النصب ويقاسي فيما فيه نجاته العطب وقد قيل: إن الصديق الشفيق خير من الأخ الشقيق وإن تسببت في نجاتي لأجمعن لك من الآلة ما يكون لك عدة ن ثم ثم لأعلمنك من الحيل الغريبة ما تفتح به الكروم الخصيبة وتجني الأشجار المثمرة فطب نفساً وقر عيناً، فقال له الثعلب وهو يضحك: ما أحسن ما قالته العلماء في كثير من الجهل مثلك قال الذئب: وما قالت العلماء؟ قال الثعلب: ذكر العلماء أن غليظ الجثة غليظ الطبع يكون بعيداً من العقل قريباً من الجهل لأن قولك أيها الماكر الأحمق قد يحتمل الصديق المشقة في تخليص صديقه صحيح كما ذكرت ولكن عرفتني بجهلك وقلة عقلك كيف أصادقك مع خيانتك أتحسبني لك صديقاً وأنا لك عدو شامت وهذا الكلام أشد من رشق السهام إن كنت تعقل وأما قولك أنك تعطيني من الآلات ما يكون عدة لي وتعلمني من الحيل وما أصل به إلى الكروم المخصبة وأجتني به الأشجار المثمرة فمالك أيها المخادع الغادر لا تعرف لك حيلة تتخلص بها من الهلاك فما أبعدك من المنفعة لنفسك وما ابعدني من القبول لنصيحتك فإن كان عندك حيل فتحيل لنفسك في الخلاص من هذا الأمر الذي أسأل الله أن يبعد خلاصك منه فانظر أيها الجاهل إن كان عندك حيلة فخلص نفسك بها من القتل قبل أن تبذل التعليم لغيرك ولكنك مثل إنسان حصل له مرض فاتاه رجل مريض بمثل مرضه ليداويه فقال له: هل لك أن أداويك من مرضك؟ فقال له الرجل: هلا بدأت بنفسك في المداواة، فتركه وانصرف. وأنت أيها الذئب كذلك فالزم مكانك واصبر على ما اصابك، فلما سمع الذئب كلام الثعلب علم أن لا خير له عنده فبكى على نفسه وقال: كنت في غفلة من أمري فإن خلصني الله من هذا الكرب لأتوبن من تجبري على من هو أضعف مني ولألبس الصوف ولأصعدن الجهل ذاكراً الله تعالى خائفاً من عقابه واعتزل سائر الوحوش ولأطعمن المجاهدين والفقراء، ثم بكى وانتحب فرق له قلب الثعلب وكان لما سمع تضرعه والكلام الذي يدل على توبته من العتو والتكبر أخذته الشفقة عليه فوثب من فرحته، ووقف على شفير الحفيرة ثم جلس على رجليه وأدلى ذنبه في الحفيرة فعند ذلك فعند ذلك قام ومد يده إلى ذبن الثعلب وجذبه إليه فصار في الحفيرة معه، ثم قال له الذئب: أيها الثعلب القليل الرحمة كيف تشمت بي وقد كنت صاحبي وتحت قهري ووقعت معي في الحفيرة وتعجلت لك العقوبة، وقد قال الشاعر:
                        إذا ما الدهر جار على الناس        كلاكله أنـاخ بـآخـرينـا
                        فقل للشامتين بنـا أفـيقـوا            سيلقى الشامتون كما لقينـا
ثم قال الذئب للثعلب: فلا بد أن أعجل قتلك فبل أن ترى قتلي، فقال الثعلب في نفسه: إني وقعت مع هذا الجبار وهذا الحال يحتاج إلى المكر والخداع، وقد قيل: إن المرأة تصوغ حليها ليوم الزينة وفي المثل ما ادخرتك يا دمعتي إلا لشدتي وإن لم أتحيل في أمر هذا الوحش الظالم هلكت لا محالة، وما احسن قول الشاعر:
                       عش بالخداع فأنت في            زمن بنوه كأسد بـيشة
                       وأدر قناة المكر حتـى            تستدير رحى المعيشة
                       واجن الثمار فإن تفتـك           فرض نفسك بالحشيشة
ثم إن الثعلب قال للذئب: لا تعجل علي بالقتل فتندم أيها الوحش الصنديد صاحب القوة والبأس الشديد وإن تمهلت وأمعنت النظر فيما أحكيه لك، عرفت قصدي الذي قصدته وإن عجلت بقتلي فلا فائدة لك فيه، ونموت جميعنا هاهنا، فقال له الذئب: أيها المخادع الماكر وما الذي ترجوه من سلامتي وسلامتك حتى تسألني التمهل عليك فاخبرني بقصدك الذي قصدته؟ فقال له الثعلب: أما قصدي الذي قصدته فمما ينبغي أن تحسن عليه مجازاتي لأني سمعت ما وعدت من نفسك واعترافك بما سلف منك وتلهفك على ما فاتك من التوبة وفعل الخير وسمعت ما نذرته على نفسك من كف الأذى عن الأصحاب وغيرهم وتركك أكل العنب وسائر الفواكه، ولزمك الخشوع وتقليم أظافرك وتكسير أنيابك وان تلبس الصوف وتقرب القربان لله تعالى إن نجاك مما أنت فيه فأخذتني الشفقة عليك مع انني كنت على حق هلاكك حرصاً. فلما سمعت منك توبتك وما نذرت على نفسك إن نجاك الله لزمني خلاصك مما أنت فيه فأدليت إليك ذنبي لكيما تتعلق به وتنجو فلم تترك الحالة التي أنت عليها من العنف والشدة ولم تلتمس النجاة والسلامة لنفسك بالرفق بل جذبتني جذبة ظننت منها أن روحي قد خرجت فصرت أنا وأنت في منزلة الهلاك والموت وما ينجيني أنا وأنت إلا شيء إن قبلته مني خلصت أنا وانت وبعد ذلك يجب عليك أن تفي بما نذرته وأكون رفيقك، فقال له الذئب: وما الذي أقبله منك، قال له الثعلب: تنهض قائماً وأعلو أنا فوق رأسك حتى أكون قريباً من ظاهر الأرض فإني حين أصير فوقها أخرج وآتيك بما تتعلق به وتخلص أنت بعد ذلك فقال له الذئب: لست بقولك واثقاً لأن الحكماء قالوا: من استعمل الثقة في موضع الحقد كان مخطئاً. وقيل من وثق بغير ثقة كان مغوراً، ومن جرب المجرب حلت به الندامة، ومن لم يفق بن الحالات فيعطي كل حالة حظها بل حمل الأشياء كلها على حالة واحدة قل حظه وكثرت مصائبه، وما أحسن قول الشاعر:
                  لا يكـن ظـنـك لا سـيئاً إن            سوء الظن من أقوى الفطـن
                  ما رمى الإنسان في مهلـكة           مثل فعل الخير والظن الحسن
فقال الثعلب: إن سوء الظن ليس محموداً في كل حال وحسن الظن من شيم الكرام وعاقبته النجاة من الأهوال وينبغي لك أيها الذئب أن تتحيل على النجاة مما أنت فيه ونسلم جميعاً خير من موتنا فارجع عن سوء الظن والحقد لأنك إن أحسنت الظن بي لا أخلو من أحد أمرين: إما أن آتيك بما تتعلق به وتنجو مما أنت فيه وإما أن أغدر بك فأخلص وأودعك وهذا مما لا يمكن فإني لا آمن أن أبتلي بشيء مما ابتليت به فيكون ذلك عقوبة الغدر وقد قيل في الأمثال: الوفاء مليح والغدر قبيح، فينبغي أن تثق بي فإني لم أكن جاهلاً بحوادث الدهر فلا تؤخر حيلة خلاصنا فالأمر أضيق من أن نطيل فيه الكلام.
 فقال الذئب: إني مع قلة ثقتي بوفائك قد عرفت ما في خاطرك من انك أردت خلاصي لما عرفت توبتي فقلت في نفسي: إن كان حقاً فيما زعم فإنه يستدرك ما أفسد وإن كان مبطلاً فجزاؤه على ربه، وهاأنا أقبل منك ما أشرت به علي فإن غدرت بي كان الغدر سبباً لهلاكك، ثم إن الذئب انتصب واقفاً وأخذ الثعلب على أكتافه حتى ساوى به ظاهر الأرض فوثب الثعلب عن أكتاف الذئب حتى صار على وجه الأرض ووقع مغشياً عليه، فقال له الذئب: يا خليلي لا تغفل عن أمري ولا تؤخر خلاصي، فضحك الثعلب وقهقه وقال للذئب: أيها المغرور لم يوقعني في يدك إلا المزح معك والسخرية بك وذلك أني لما سمعت توبتك استخفني الفرح فطربت ورقصت فتدلى ذنبي في الحفرة فجذبتني فوقعت عندك ثم انقذني الله تعالى من يدك فما لي لا أكون عوناً على هلاكك وأنت من حزب الشيطان، واعلم أنني رأيت البارحة في منامي أني أرقص في عرس فقصصت الرؤيا على معبر، فقال لي: إنك تقع في ورطة وتنجو منها فعلمت وقوعي في يدك ونجاتي هو تأويل رؤياي وأنت تعلم أيها المغرور الجاهل أني عدوك فكيف تطمع بقلة عقلك وجهلك في إنقاذي إياك مع ما سمعت من غلظ كلامك؟ وكيف أسعى في نجاتك وقد قالت العلماء: إن في موت الفاجر راحة الناس وتطهير للأرض ولولا مخافة أن أحتمل من الألم في الوفاء لك ما هو أعظم من ألم الغدر لتدبرت في خلاصك، فلما سمع الذئب كلام الثعلب عض على كتفه ندماً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الذئب لما سمع كلام الثعلب عض على كتفه ندماً ثم لين له في الكلام ولم يجد بداً من ذلك وقال له بلسان خافت: إنكم معشر الثعالب من أحلى القوم لساناً وألطفها مزاحاً وهذا منك مزاح ولكن ما كل وقت يحسن اللعب والمزاح، فقال الثعلب: أيها الجاهل إن للمزاح حد لا يجاوزه صاحبه فلا تحسب فلا تحسب أن الله يمكنك مني بعد أن أنقذني من يديك، فقال له الذئب: إنك لجدير أن ترغب في خلاصي لما بيننا من سابق المؤاخاة والصحبة وإن خلصتني لا بد أن أحسن مكافاتك، فقال الثعلب: قد قال الحكماء: لا تؤاخ الجاهل الفاجر فإنه يشينك ولا يزينك، ولا تؤاخ الكذاب فإنه إن بدا منك خير خفاه وإن بدا منك شر فشاه، وقال الحكماء: لكل شيء حيلة إلا الموت وقد يصلح كل شيء إلا فساد الجوهر وقد يدفع كل شيء إلا القدر وأما من جهة المكافأة التي زعمت أني أستحقها منك فإني أشبهك بالحية الهاربة من الحاوي إذ رآها رجل وهي مرعوبة فقال لها: ما شأنك أيتها الحية؟ قالت: هربت من الحاوي فإنه يطلبني فإن نجيتني منه وأخفيتني عندك لأحبسن مكافأتك وأصنع معك كل جميل فأخذها اغتناماً للأجر وطمعاً في المكافأة وأدخلها في جيبه فلما فات الحاوي ومضى إلى حال سبيله وزال عنها ما كانت تخافه قال لها الرجل: أين المكافأة فقد أنقذتك مما تخافين وتحذرين؟ فقالت له الحية: أخبرني في أي عضو أنهشك؟ وقد علمت أننا لا نتجاوز هذه المكافأة ثم نهشته نهشة مات منها وأنت أيها الأحمق شبهتك بتلك الحية مع ذلك الرجل أما سمعت قول الشاعر:
                   لا تأمنن فتى أسكنت مهجـتـه             غيظاً وتحسب أن الغيظ قد زالا
                   إن الأفاعي وإن لانت ملامسها            تبدي انعطافاً وتخفي السم قتالا
فقال له الذئب الفصيح صاحب الوجه المليح: لا تجهل حالي وخوف الناس مني وقد علمت أني أهجم على الحصون وأقلع الكروم فافعل ما أمرتك به وقم بي قيام العبد بسيده فقال له الثعلب: أيها الأحمق الجاهل المحال بالباطل إني تعجبت من حماقتك وصلابة وجهك فيما تأمرني به من خدمتك والقيام بين يديك حتى كأنني عبدك ولكن سوف ترى ما يحل بك من شرخ رأسك بالحجارة وكسر أنيابك بالغدارة.
ثم وقف الثعلب على تل مشرف على الروم ولم يزل يصيح لأهل الكرم حتى بصروا به وأقبلوا عليه مسرعين فثبت لهم الثعلب حتى قربوا منه ومن الحفرة التي فيها الذئب ثم ولى الثعلب هارباً فنظر أصحاب الكرم في الحفرة فلما رأوا فيها الذئب وقعوا عليه بالحجارة الثقال ولم يزاوا يضربونه بالحجارة والخشب ويطعنونه بأسنة الرماح حتى قتلوه وانصرفوا فرجع الثعلب إلى تلك الحفرة ووقف على مقتل الذئب، قرآه ميتاً فحرك رأسه من شدة الفرحات وأنشد هذه الأبيات:
                أودى الزمان بنفس الذئب فاختطفت          بعداً وسحقاً لها من مهجة تلفـت
                فكم سعيت أبا سرحان في تلـفـي             فاليوم حلت بك الآفات والتهبـت
                وقعت في حفرة ما حلـهـا أحـد              إلا وفيها رياح الموت قد عصفت
ثم إن الثعلب أقام بالكرم وحده مطمئناً لا يخاف ضرراً وهذا ما كان من حديث الثعلب.
ومما يحكى أن فأرة وبنت عرس كانتا ينزلان منزلاً لبعض الناس وكان ذلك الرجل فقيراً، وقد مرض بعد أصدقائه فوصف له الطبيب السمسم المقشور، فأعطاه لزوجته وأمرها بإصلاحه فقشرته تلك المرأة وأصلحته، فلما عاينت بنت عرس السمسم أتت إليه ولم تزل تنقل من ذلك السمسم إلى حجرها طول يومه حتى نقلت أكثره وجاءت المرأة فرأت نقصان السمسم واضحاً فجلست ترصد من تأتي إليه حتى تعل سبب نقصانه فنزلت بنت عرس لتنقل منها على عادتها فرأت المرأة جالسة فعلمت أنها ترصدها فقالت في نفسها: إن لهذا الفعل عواقب ذميمة وإني أخشى من تلك المرأة أن تكون لي بالمرصاد ومن لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب، ولا بد لي أن أعمل حسناً أظهر به براءتي من جميع ما عملته من القبيح فجعلت تنقل من ذلك السمسم الذي في حجرها فرأتها المرأة وهي تفعل ذلك، فقالت في نفسها ما هذا سبب نقصه لأنها تأتي به من حجر الذي اختلسه وتضعه على بعضه وقد أحسنت إلينا في رد السمسم وما جزاء من أحسن إلا أنيحسن إليه وليست هذه آفة في السمسم ولكن لا أزال أرصده حتى يقع واعلم من هو، ففهمت بنت عرس ما خطر ببال تلك المرأة فانطلق إلى الفأرة فقالت لها: يا أختي إنه لا خير فيمن لا يرعى المجاورة ولا يثبت على المودة، فقالت الفأرة نعم يا خليلتي وأنعم بك وبجوارك فما سبب هذا الكلام؟ فقالت بنت عرس: إن رب البيت اتى بسمسم فأكل منه هو وعياله وشبعوا واستغنوا عنه وتركوه وقد أخذ منه كل ذي روح، فلو أخذت أنت الأخرى كنت أحق به ممن يأخذ منه، فأعجب الفأرة ذلك ورقصت ولعبت ذنبها وغرها الطمع في السمسم فقامت من وقتها وخرجت من بيتها فرأت السمسم مقشوراً يلمع من البياض والمرأة جالسة ترصده فلم تفكر الفأرة في عاقبة الأمر وكانت المرأة قد استعدت بهراوة فلم تتمالك الفأرة حتى دخلت في السمسم وعانت فيه وصارت تأكل منه فضربتها المرأة بتلك الهراوة فشجت رأسها وكان الطمع سبب هلاكها وغفلتها عن عواقب الأمور.
فقال الملك: يا شهرزاد والله إن هذه حكاية مليحة فهل عندك حديث في حسن الصداقة والمحافظة عليها عند الشدة والتخلص من الهلكة؟ قالت: نعم بلغني أن غراباً وسنوراً كانا متآخين فبينما هما تحت الشجرة على تلك الحالة إذ رأيا نمراً مقبلاً على تلك الشجرة التي كانا تحتها ولم يعلما به حتى صار قريباً من الشجرة فطار الغراب إلى أعلى الشجرة وبقي السنور متحيراً فقال للغراب: يا خليلي هل عندك حيلة في خلاصي كما هو الرجاء فيك؟ فقال الغراب: إنما تلتمس الأخوان عند الحاجة إليهم في الحيلة عند نزول المكروه بهم، وما احسن قول الشاعر:
              إن صديق الحق من كان معك       ومن يضر نفسه لا ينفعـك
              ومن إذا ريب الزمان صدعك        شتت فيه شمله ليجمـعـك
و كان قريباً من الشجرة رعاة معهم كلاب فذهب الغراب حتى ضرب بجناحه وجه الأرض ونعق وصاح، ثم تقدم إليهم وضرب بجناحه وجه بعض الكلاب وارتفع قليلاَ فتبعته الكلاب وسارت في ثره ورفع الراعي رأسه فرأى طائراً يطير قريباً من الأرض ويقع فتبعه وصار الغراب لا يطير إلا بقدر التخلص من الكلاب ويطمعها في أنتفترسه، ثم ارتفع قليلاً وتبعته الكلاب حتى انتهى إلى الشجرة التي تحتها النمر، فلما رأت الكلاب النمر وثبت عليه فولى هارباً وكان يظن أنهيأكل السنور فنجا منه ذلك السنور بحيلة الغراب صاحبه وقد أخبرتك بهذا أيها الملك لتعلم أنمودة أخوان الصفا تنجي من الهلكات. و حكي أن ثعلباً سكن في بيت في الجبل وكان كلما ولد ولداً واشتد ولده أكله من الجوع وإن لم يأكل ولده يضربه الجوع، وكان يأوي إلى ذروة ذلك الجبل غراب فقال الثعلب في نفسه: أريد أن أعقد بيني وبين هذا الغراب مودة واجعله لي مؤنساً على الوحدة معاونا على طلب الرزق لأنه يقدر من ذلك على ما لا أقدر عليه، فدنا الثعلب من الغراب حتى صار قريباً منه بحيث يسمع كلامه فسلم عليه ثم قال له: يا جاري إن للجار المسلم على الجار المسلم حقين: حق الجيرة وحق الإسلام واعلم بأنك جاري ولك علي حق يجب قضاؤه وخصوصاً مع طول المجاورة، على أن في صدري وديعة من محبتك دعتني إلى ملاطفتك وبعثتني على التماس أخوتك فما عندك من الجواب؟ فقال الغراب: اعلم إن خير القول أصدقه وربما تتحدث بلسانك بما ليس في قلبك وأخشى أن تكون أخوتك باللسان ظاهراً وعداوتك في القلب لأنك آكل وأنا مأكول فوجب علينا التباين في المحبة ولا يمكن مواصلتنا، فما الذي دعاك إلى طلب ما لا تدرك وإرادة ما لا يكون وأنت من جنس الوحوش وأنا من جنس الطيور وهذه الأخوة لا تصح. فقال له الثعلب: إن من موضع الإخلاء فأحسن الإختيار فيما يختاره منهم ربما يصل إلى بعض منافع الأخوان وقد اخترت قربك واخترت الأنس بك ليكون بعضنا عوناً لبعض على أغراضنا وتعقب مودتنا، وعندي حكايات في حسن الصداقة فإن أردت أن أحكيها حكيتها لك، فقال الغراب: أذنت لك أن تبثها فحدثني بها حتى أعر فالمراد منها، فقال له الثعلب: اسمع يا خليلي يحكى عن برغوت وفأرة وما يستدل به على ما ذكرته لك، فقال الغرا ب: وكيف كان ذلك؟ فقال الثعلب: زعموا أن فارة في بيت رجل من التجار كثير المال فآوى البرغوت ليلة إلى فراش ذلك التاجر فرأى بدناً ناعماً وكان البرغوت عطشاناً فشرب من دمه، ووجد التاجر من البرغوت ألماً فاستيقظ من النوم واستوى قاعداً ونادى أتباعه فأسرعوا إليه وشمروا عن أيديهم يطوفون على البرغوت، فلما أحس البرغوت بالطلب ولى هارباً فصادف حجر الفأرة فدخله، فلما رأته الفأرة قالت له: ما الذي أدخلك علي ولست من جوهري ولا من جنسي ولست بآمن من الغلظة عليك ولا مضاررتك؟ فقال لها البرغوت: إني هربت إلى منزلك وفزت بنفسي من القتل وأتيت مستجيراً بك ولا طمع لي في بيتك ولا يلحقك مني شر يدعوك إلى الخروج من منزلك وإني أرجو أن أكافئك على إحسانك بكل جميل وسوف تحمدين عاقبة ما أقول لك، فلما سمعت الفأرة كلام البرغوت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفأرة لما سمعت كلام البرغوت قالت: إذا كان الكلام على ما أخبرت فاطمئن هنا وما عليك بأس ولا تجد إلا ما يسرك ولا يصيبك إلا ما يصيبني وقد بذلت لك مودتي ولا تندم على ما فاتك من دم التاجر ولا تأسف على قوتك منه وارض بما تيسر لك من العيش فإن ذلك أسلم لك وقد سمعت أيها البرغوت بعض الوعاظ ينشد هذه الأبيات:
               سلكت طريق القناعة والإنفراد        قضيت دهري بماذا اتـفـق
               بكسرة خبـز وشـربة مـاء             وملح جريش وثوب خـلـق
                فإن يسر الله لي عـيشـتـي             وإلا قنعت بـمـا قـد رزق
فلما سمع البرغوت كلام الفأرة، قال: يا أختي قد سمعت وصيته وانقدت إلى طاعتك ولا قوة لي على مخالفتك إلى أن ينقضي العمر بتلك النية فقالت له الفأرة: كفى بصدق المودة في صلاح النية ثم انعقد الود بينهما وكان البرغوت بعد ذلك يأوي إلى فراش التاجر ولا يتحاور بلغته ويأوي بالليل مع الفأرة في مسكنها فاتفق أن التاجر جاء ليلة إلى منزله بدنانير كثيرة فجعل يقلبها، فلما سمعت الفأرة صوت الدنانير أطلعت رأسها من جحرها وجهلت تنظر إليها حتى وضعها التاجر تحت وسادة ونام فقالت الفأرة للبرغوت: أما ترى الفرصة والحظ العظيم، فهل عندك حيلة إلى بلوغ الغرض من تلك الدنانير؟ فقال لها البرغوت: قد التزمت لك بإخراجه من البيت ثم انطلق البرغوت إلى فراش التاجر ولدغه لدغة قوية لم يكن جرى للتاجر مثلها، ثم تنحى البرغوت إلى موضع يأمن فيه على نفسه من التاجر فانتبه التاجر يفتش على البرغوت فلم يجد شيئاً فرقد على جنبه الآخر فلدغه البرغوت لدغة أشد من الأولى فقلق التاجر وفارق وخرج إلى مصطبة داره فنام هناك ولم ينتبه إلى الصباح ثم إن الفأرة أقبلت على الدنانير حتى لم تترك منها شيئاً.
فلما أصبح الصباح صار التاجر يتهم الناس ويظن الظنون ثم قال الثعلب للغراب: واعلم أني لم أقل لك هذا الكلام أيها الغراب البصير العاقل الخبير إلا ليصل إليك جزاء إحسانك إلي كما وصل للفأرة جزاء إحسانها إلى البرغوت فانظر كيف جازاها أحسن المجازاة وكافأها أحسن المكافأة، فقال الغراب: إن شاء المحسن يحسن أو لا يحسن وليس الإحسان واجباً لمن التمس صلة بقطيعة وإن أحسنت إليك مع كونك عدوي أكون أتسبب في قطيعة نفسي، وأنت أيها الثعلب ذو مكر وخداع ومن شيمتك المكر والخديعة لا تؤمن على عهد لا أمان له، وقد بلغني عن قريب أنك غدرت بصاحبك الذئب ومكرت به حتى أهلكته بغدرك وحيلتك وفعلت به هذه الأمور مع أنه من جنسك وقد صحبته مدة مديدة فما أبقيت عليه فكيف أثق منك بنصيحة وإذا كان هذا فعلك مع صاحبك الذي من جنسك فكيف فعلك مع عدوك الذي من غير جنسك؟ وما مثالك معي إلا مثال الصقر مع ضواري الطير، فقال الثعلب: وما حكاية الصقر مع ضواري الطير؟ فقال الغراب: زعموا أن صقراً كان جباراً عنيداً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغراب قال: زعموا أن صقراً كان جباراً عنيداً أيام شبيبته وكان سباع البر وسباع الطير تفزع منه ولا يسلم من شره أحد وله حكايات كثيرة في ظلمه وتجبره وكان دأب هذا الصقر الأذى لسائر الطيور فلما مرت عليه السنون ضعف وجاع واشتد جهده بعد فقد قوته فأجمع رأيه على أن يأتي مجمع الطير فيأكل ما يفضل منها، فعند ذلك صار قوته بالحيلة البعثد القوة والشدة وأنت كذلك أيها الثعلب إن عدمت قوتك ما عدمت خداعك ولست أشك في أن ما تطلبه من صحبتي حيلة على قوتك فلا كنت ممن يضع يده في يدك لأن الله أعطاني قوة في جناحي وحذراً في نفسي وبصراً في عيني وأعلم أن من تشبه بأقوى منه تعب وربما هلك. هذا ما عندي الكلام واذهب عش بسلام، فلما يئس الثعلب من مصادقة الغراب رجع من حزنه يئن وقرع للندامة سناً على سن.
فلما سمع الغراب بكاءه وأنينه ورأى كآبته وحزنه قال: أيها الثعلب ما نابك حتى قرعت نابك؟ قال له الثعلب: إنما قرعت سني لأني رأيتك أخدع مني ثم ولى هارباً ورجع إلى جحره طالباً، وهذا ما كان من حديثهما أيها الملك، فقال الملك: يا شهرزاد ما أحسن هذه الحكايات هل عندك شيء مثلها من الخرافات؟  قالت: ويحكى أن قنفذاً مسكناً بجانب نخلة وكان الورشان هو وزوجته فلما اتخذا عشا في النخلة وعاشا فوقها عيشاً رغيداً فقال القنفذ في نفسه: إن الورشان يأكل من ثمر النخل وأنا أجد إلى ذلك سبيلاً ولكن لابد من استعمال الحيلة، ثم حفر في أسفل النخلة بيتاً واتخذه سكناً له ولزوجته وإلى جانبه مسجداً وانفرد فيه وأظهر النسك والعبادة، وترك الدنيا وكان الورشان متعبداً مصلياً فرق له من شدة زهده وقال: كم سنة وأنت هكذا؟ قال: مدة ثلاثين سنة قال: ما طعامك؟ قال: ما يسقط من النخلة قال: ما لباسك؟ قال شوك أنتفع بخشونته، فقال: وكيف اخترت مكانك هذا على غيره؟ قال: اخترته على غير طريق لأجل أن أرشد الضال وأعلم الجاهل، فقال له الورشان: كنت أظهر على انك على غير هذه الحالة ولكنني رغبت فيما عندك فقال القنفذ: إني أخشى أن يكون قولك ضد فعلك فتكون كالزراع الذي جاء وقت الزرع قصر في بذره وقال: إني أخشى أن يكون أوان الزرع قد فات فأكون قد أضعت المال بسرعة البذر فلما جاء وقت الحصاد ورأى الناس يحصدون ندم على ما فاته من تقصيره ومن تخلفه ومات أسفاً، فقال الورشان للقنفذ: وماذا أصنع حتى أتخلص من علائق الدنيا وأنقطع إلى عبادة ربي؟ قال له القنفذ: خذ في الإستعداد للميعاد والقناعة بالكفاية في الزاد، فقال الورشان: كيف لي بذلك وأنا طائر لا أستطيع أن أتجاوز النخلة التي فيها قوتي؟ ولو استطعت ذلك ما عرفت موضعاً أستقر فيه فقال القنفذ: يمكنك أن تنثر من ثمر النخلة ما يكفيك مؤونة عام أنت وزوجتك وتسكن قي وكر تحت النخلة لالتماس حسن إرشادك، ثم مل إلى ما نثرته من الثمر فانقله جميعاً وادخره قوتاً للعدم وإذا فرغت الثمار وطال عليك المطال سر إلى كفاف العيش. فقال الورشان: جزاك الله خيراً حيث ذكرتني بالميعاد وهديتني إلى الرشاد ثم تعب الورشان هو وزوجته في طرح الثمر حتى لم يبق في النخلة شيء فوجد القنفذ ما يأكل وفرح به وملأ مسكنه من الثمر وادخره لقوته وقال في نفسه: إن الورشان هو وزوجته إذا احتاجا إلى مؤونتهما طلباها مني وطمعاً فيما عندي وركنا إلى تزهدي وورعي.
فلما رأى الورشان منه الخديعة لائحة قال له: أين الليلة من البارحة فما تعلم أن للمظلومين ناصراً فإياك والمكر والخديعة، لئلا يصيبك ما أصاب الخداعين الذين مكروا بالتاجر، فقال القنفذ: وكيف ذلك؟ قال: بلغني أن تاجراً من مدينة يقال لها سنده كان ذا مال واسع فشد جمالاً وجهز متاعاً وخرج به إلى بعض المدن ليبيعه فيها فتبعه رجلان من المكرة وحملا شيئا من مال ومتاع وأظهرا للتاجر أنهما من التجار وساروا معه فلما نزلا أول منزل اتفقا على المكر به وأخذ ما معه. ثم إن كل واحد منهما أضمر المكر لصاحبه وقال في نفسه: لو مكرت بصاحبي بعد مكرنا بالتاجر لصفا لي الوقت وأخذت جميع المال، ثم أضمرا لبعضهما نية فاسدة وأخذ كل منهما طعاماً وجعل فيه سماً وقربه لصاحبه فقتلا بعضهما وكانا يجلسان مع التاجر ويحدثانه فلما أبطأوا عليه فتش عليهما ليعرف خبرهما فوجدهما ميتين فعلم أنهم كانا محتالين وأرادا المكر به فعاد عليهما مكرهما وسلم التاجر والمال معه فقال الملك نبهتني يا شهرزاد على شيء كنت غافلاً عنه أفلا تزيديني من هذه الأمور؟ قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن رجلاً كان عنده قرد وكان ذلك الرجل سارقاً لا يدخل سقاً من أسواق المدينة التي هو فيها إلا ويرجع بكسب عظيم فاتفق أن رجلاً حمل أثواباً ليبيعها فذهب بها إلى السوق وصار ينادي عليها فلا يسومها أحد وكان لا يعرضها على أحد إلا امتنع من شرائها فاتفق أن السارق الذي معه القرد رأى الشخص الذي معه الياب المقطعة وكان وضعها في بقجة وجلس يستريح من التعب فلعب القرد أمامه حتى أشغله بالفرجة عليه واختلس منه تلك البقجة، ثم أخذ القرد وذهب إلى السوق مكان خال وفتح البقجة فرأى تلك الثياب المقطعة فوضعها في بقجة نفيسة وذهب بها إلى سوق آخر وعرض البقجة للبيع بما فيها واشترط أن لا تفتح ورغب الناس فيها قلة الثمن فرآها رجل وأعجبه نفاستها فاشتراها وذهب بها إلى زوجته، فلما رأت ذلك امرأته قالت: ما هذا؟ قال: متاع نفيس اشتريته بدون القيمة لأبيعه واخذنا فائدته فقالت: أيها المغبون هذا المتاع بأقل من قيمته إلا إذا كان مسروقاً؟ أما تعلم أن من اشترى شيئاً ولم يعاينه كان مخطئاً وكان مثله مثل الحائك فقال لها: وكيف كان ذلك؟ فقالت: بلغني أن حائكاً كان في بعض القرى وكان يعمل فلا ينال القوت إلا بجهد، فاتفق أن رجلاً من الأغنياء كان ساكناً قريباً منه قد أولم وليمة ودعا الناس إليها فحضر الحائك فرأى الناس الذين عليهم الثياب الناعمة يقدم لهم الأطعمة الفاخرة وصاحب المنزل يعظمهم لما يرى من حسن زيهم، فقال في نفسه: لو بدلت تلك الصنعة بصنعة أخف مؤونة منها وأكثر أجرة لجمعت مالاً كثيراً واشتريت ثياباً فاخرة وارتفع شأني وعظمت في أعين الناس ثم نظر إلى بعض ملاعب الحاضرين في الوليمة وقد صعد سوراً شاهقاً ثم رمى بنفسه إلى الأرض ونهض قائماً فقال في نفسه: لا بد أن أعمل مثل عمل هذا ولا أعجز عنه، ثم صعد إلى السور ورمى نفسه، فلما وصل إلى الأرض اندقت رقبته فمات وإنما أخبرتك بذلك لئلا يتمكن منك الشره، فترغب فيما ليس من شانك. فقال لها زوجها: ما كل عالم يسلم بعلمه ولا كل جاهل يعطب بجهله وقد أيت الحاوي الخبير بالأفاعي العالم بها وربما نهشته الحية فقتلته وقد يظهر بها الذي لا معرفة له بها ولا علم عنده بأحواله ثم خالف زوجته واشترى المتاع وأخذ في تلك العادة فصار يشتري من السارقين بدون القيمة إلى أن وقع في تهمة فهلك فيها وكان في زمنه عصفور يأتي كل يوم إلى ملك من ملوك الطير ولم يزل غادياً ورائحاً عنده بحيث كان أول داخل عليه وآخر خارج من عنده فاتفق أن جماعة من الطير اجتمعوا في جبل عال من الجبال فقال بعضهم لبعض: إنا قد كثرنا وكثر الاختلاف بيننا، ولا بد لنا من ملك ينظر في أمورنا فتجتمع كلمتنا ويزول الاختلاف عنا، فمر بهم ذلك العصفور فأشار عليهم بتمليك الطاووس وهو الملك الذي يتردد إليه فاختاروا الطاووس وجعلوه عليهم ملكاً فأحسن إليهم وجعل ذلك العصفور كاتبه ووزيره فكان تارة يترك الملازمة وينظر في الأمور، ثم إن العصفور غاب يوماً عن الطاووس فقلق قلقاً عظيماً فبينما هو كذلك إذ دخل عليه العصفور فقال له: ما الذي أخرك وأنت أقرب اتباعي إي؟ فقال العصفور: رأيت أمراً واشتبه علي فتخوفت منه، فقال له الطاووس: ما الذي رأيت؟ قال العصفور: رأيت رجلاً معه شبكة قد نصبها عند وكري وثبت أوتادها وبذر في وسطها حباً وقعد بعيداً عنها فجلس انظر ما يفعل فبينما أنا كذلك إذا بكركي هو وزوجته قد ساقهما القضاء والقدر حتى سقطا في وسط الشبكة، فصارا يصرخان فقام الصياد وأخذهما فأزعجني ذلك وهذا سبب غيابي عنك يا ملك الزمان وما بقيت أسكن هذا الوكر حذراً من الشبكة، فقال له الطاووس: لا ترحل من مكانك لأنه لا ينفع الحذر من القدر فامتثل أمره، وقال: سأصبر ولا أرحل طاعة للملك ولم يزل العصفور محاذراً على نفسه وأخذ الطعام إلى الطاووس فأكل حتى اكتفى وتناول على الطعام ماء ثم ذهب العصفور.
فبينما هو في بعض الأيام شاخصاً إذا بعصفورين يقتتلان في الأرض فقال في نفسه: كيف أكون وزير الملك وأرى العصافير تقتتل في جواري والله لأصلحن بينهما، ثم ذهب إليهما ليصلح بينهما فقلب الصياد الشبكة على الجميع فوقع العصفور في وسطها فقام إليه الصياد وأخذه ودفعه إلى صاحبه وقال: استوثق به فإنه سمين لم أر أحسن منه، فقال العصفور في نفسه قد وقعت فيما كنت أخاف وما كان آمناً إلا الطاووس ولم ينفعني الحذر من القدر فلا مفر من القضاء للمحاذر وما أحسن قول الشاعر:
                   ما لا يكون فلا يكون بحيلة           أبداً وما هو كائن سيكـون
                  سيكون ما هو كائن في وقته         وأخو الجهالة دائماً مغبون
فقال الملك: يا شهرزاد زيديني من هذا الحديث فقالت: الليلة القابلة أن أبقاني الملك أعزه الله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
فبراير 18, 2018

حكاية علي بن البكار مع شمس النهار

حكاية علي بن البكار مع شمس النهار
وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان في خلافة هارون الرشيد رجل تاجر له ولد يسمى أبا الحسن علي بن طاهر وكان كثير المال والنوال حسن الصورة محبوباً عند كل من يراه وكان يدخل دار الخلافة من غير غذن ويحبه جميع سراري الخليفة وجواريه وكان ينادمه وينشد عنده الأشعار ويحدثه بنوادر الأخبار إلا أنه كان يبيع ويشتري في سوق التجار وكان يجلس على دكان شاب من أولاد ملوك العجم يقال له: علي بن بكار وكان ذلك الشاب مليح القامة ظريف الشكل كامل الصورة مورد الخدين مقرون الحاجبين عذب الكلام ضاحك السن يحب البسط والإنشراح فاتفق لهما كانا جالسين يتحدثان ويضحكان وإذا بعشر جوار كأنهن الأقمار وكل منهن ذات حسن وجمال وقد واعتدال وبينهن صبية راكبة على بغلة بسرج مزركش، له ركاب من الذهب كما قال فيها الشاعر:
               لها بشر مثل الحرير ومنـطـق       رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
              وعينان قال الله كونا فـكـانـتـا        فعولان بالألباب ماتفعل الخمـر
               فيا حبها زدني جوى كـل لـيلة       ويا سلوة الحباب موعدك الحشر
فلما وصلوا إلى دكان أبي الحسن نزلت عن البغلة وجلست على دكانه فسلمت عليه وسلم عليها فلما رآها علي بن كار سلبت عقله وأراد القيام فقالت له: اجلس مكانك كيف تذهب إذا حضرنا هذا ما هو انصاف؟ فقال: والله يا سيدتي إني هارب مما رأيت وما أحسن قول الشاعر:
             هي الشمس مسكنها في السماء        فعز الفؤاد عـزاء جـمـيلا
             فلن تستطيع إليهـا صـعـوداً           ولن تستطـيع إلـيك نـزولا
فلما سمعت ذلك الكلام تبسمت وقالت لأبي الحسن: ما اسم هذا الفتى ومن أين هو؟ فقال لها: هذا غريب اسمه علي بن بكار بن ملك العجم والغريب يجب إكرامه فقالت له: إذا جاءتك جاريتي فارسله لعندي فقال أبو الحسن: على الرأس ثم قامت وتوجهت إلى حال سبيلها. هذا ما كان من أمرها.
وأما ما كان من أمر علي بن بكار فإنه صار لا يعرف ما يقول وبعد ساعة جاءت الجارية إلى أبي الحسن وقالت: إن سيدتي تطلبك أنت ورفيقك فنهض أبو الحسن وأخذ معه علي بن بكار وتوجها إلى دار هارون الرشيد فأدخلتهما في مقصورة وأجلستهما وإذا بالموائد وضعت قدامهما فأكلا وغسلا أيديهما، ثم أحضرت لهما الشراب فشربا، ثم أمرتهما بالقيام فقاما معها وأدخلتهما مقصورة أخرى مركبة على أربعة أعمدة وهي مفروشة بأنواع الفرش مزينة بأحسن الزينة، كأنها من قصور الجنان اندهشا مما عاينا من التحف. فبينما هما يتفرجان على هذه الغرائب وإذا بعشر جوار أقبلن وبينهن جارية اسمها شمس النهار كأنها القمر بين النجوم وهي متوحشة تفاضل شعرها وعليها لباس أزرق أزرار من الحرير بطراز من الذهب وفي وسطها حياصة مرصعة بأنواع الجواهر ولم تزل تتبختر حتى جلست على السرير فلما رآها علي بن بكار أنشد هذه الأشعار:  
                 إن هذي هي ابتداء سقـامـي          وتمادي وجدي وطول غرامي
                 عندها قد رأيت نفسـي ذابـت          من ولوعي بها وبري عظامي
فلما فرغ من شعره قال لأبي الحسن لو عملت معي خيراً كنت أخبرتني بهذه الأمور قبل الدخول هنا لأجل أن أوطن نفسي وأصبرها على ما أصابها ثم بكى وأن واشتكى فقال له أبو الحسن: يا أخي أنا ما أردت لك إلا الخير ولكن خشيت أن أعلمك بذلك فيلحقك من الوجد ما يصدك عن لقائها ويحيل بينك وبين وصالها فطب نفساً وقر عيناً فهي بسعدك مقبلة وللقائك متوصلة، فقال علي بن بكار: ما اسم هذه الصبية؟ فقال أبو الحسن: تسمى شمس النهار وهي من محاظي أمير المؤمنين هارون الرشيد وهذا المكان قصر الخلافة ثم إن شمس النهار جلست وتأملت محاسن علي بن بكار وتأمل هو حسنها واشتغلا بحب بعضهما وقد أمرت الجواري أن تجلس كل واحدة منهن في مكانها على سرير، فجلست كل واحدة قبال طاقة وأمرتهن بالغناء فتسلمت واحدة منهن العود وأنشدت تقول:
                 أعد الرسالة ثـانـية           وخذ الجواب علانية
                وإليك يا ملك الملاح         وقفت أشكو حالـيه
                مولاي يا قلبي العزيز        ويا حياتي الغـالـية
                 أنعم علي بـقـبـلة             هبة وإلا عــارية
                 وأردها لك لا عدمت          بعينها وكمـا هـي
                 وإذا أردت زيادة             خذها ونفسي راضية
                  يا ملبسي ثوب الرض ا       يهنيك ثوب العافـية
فطرب علي بن بكار وقال: زيديني من مثل هذا الشعر، فحركت الأوتار وأنشدت هذه الأشعار:
               من كثرة البعد يا حبيبـي         علمت طول البكا جفوني
               يا حظ عيني ومـنـاهـا           ومنتهى غايتـي ودينـي
               ارث لمن طرفه غـريق          في عبرة الواله الحزين
فلما فرغت من شعرها قالت شمس النهار لجارية غيرها: أنشدي فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
           سكرت من لحظه لا من مدامته          ومال بالنوم عن عيني تمايلـه
          فما السلاف سلتني بل سوالفـه           والشمول شلتني بل شمـائلـه
           لوى بعزمي أصداغاً لوين لـه           وغالى عقلي بما تهوى غلائله
فلما سمعت شمس النهار إنشاد الجاري تنهدت وأعجبها الشعر ثم أمرت جارية أخرى أن تغني فأنشدت هذه الأبيات:
              وجه لمصباح السماء مباهـي            يبدو الشباب عليه رشح مـياه
             رقم العدار غلاليته بـأحـرف            معنى الهوى في طيبها متناهي
             نادى عليه الحسن حين لقـيتـه           هذا المنمنم في طراز الـلـه
فلما فرغت من شعرها قال علي بن بكار لجارية قريب منه، أنشدي أنت أيتها الجارية فأخذت العود وأنشدت هذه الأبيات:
                    زمن الوصل يضيق عن            هذا التمادي والـدلال
                     كم من صدود متـلـف              ما هكذا أهل الجمـال
                    فاستغنموا وقت السعود             بطيب ساعات الوصال
فلما فرغت من شعرها تنهد علي بن بكار وأرسل دموعه الغزار، فلما رأته شمس النهار قد بكى وأن واشتكى أحرقها الوجد والغرام وأتلفها الوله والهيام فقامت من فوق السرير وجاءت إلى باب القبة فقام علي بن بكار وتلقاها ووقعا مغشياً عليهما في باب القبة فقمن الجواري إليهما وحملنهما وأدخلنهما القبة ورششن عليهما ماء الورد فلما أفاقا لم يجدا أبا الحسن وكان قد اختفى في جانب سرير فقالت الصبية: أين أبو الحسن فنظر لها من جانب السرير فسلمت عليه وقالت له: أسأل الله أن يقدرني على مكافأتك يا صاحب المعروف، ثم أقبلت على علي بن بكار وقالت له: يا سيدي ما بلغ بك الهوى إلى غاية إلا وعندي أمثالها وليس لنا إلا الصبر على ما أصابنا، فقال علي بن بكار: والله يا سيدتي ليس جمع المال شملي بك يطيب وو لا ينطفئ إليك ما عندي من اللهيب ولا يذهب ما تمكن من حبك في قلبي إلا بذهاب روحي، ثم بكى فنزلت دموعه على خده كأنها المطر، فلما رأته شمس النهار يبكي بكت لبكائه فقال أبو الحسن: والله إني عجبت من أمركما واحترت من شأنكما فإن حالكما عجيب وأمركما غريب في هذا البكاء وأنتما مجتمعان فكيف يكون الحال بعد انفصالكما؟ ثم قال: هذا ليس وقت حزن وبكاء بل هذا وقت سرور وفرح.
فأشارت شمس النهار إلى جارية فقامت وعادت ومعها وصائف حاملات مائدة صحافها من الفضة وفيها أنواع الطعام، ثم وضعت المائدة قدامها وصارت شمس النهار تأكل وتلقم علي بن بكار حتى اكتفوا، ثم رفعت المائدة وغسلوا أيديهم وجاءتهم المباخر بأنواع العود وجاءت القماقم بماء الورد فتبخروا وتطيبوا وقدمت لهم أطباق من الذهب المنقوش فيها من أنواع الشراب والفواكه والنقل وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم جاءت لهم بطشت من العقيق ملآن من المدام، فاختارت شمس النهار عشر وصائف أوقفتهن عندها وعشر جوار من المغنيات وصرفت باقي الجواري إلى أماكنهن وامرت بعض الحاضرات من الجواري أن يضربن العود ففعلن ما أمرت به، وأنشدت واحدة منهن:
             بنفسي من رد التحـية ضـاحـكـاً           فجدد بعد اليأس في الوصل مطعمي
            لقد أبرزت سر الغـرام سـرائري          وأظهرت للعذال ما بين أضلـعـي
            وحالت دموع العين بينـي وبـينـه          كأن دموع العين تعشقـه مـعـي
فلما فرغت من شعرها قامت شمس النهار وملأت الكأس وشربته ثم ملأته وأعطته لعلي بن بكار.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شمس النهار ملأت الكأس لعلي بن بكار، ثم أمرت جارية أن تغني فأنشدت هذين البيتين:
                  تشابه دمعي إذ جرى ومدامـتـي           فمن مثل الكأس عيني تسـكـب
                  فوالله لا أدري أبالخمر أسلـبـت           جفوني أم من أدمعي كنت أشرب
فلما فرغت من شعرها شرب علي بن بكار كأسه ورده إلى شمس النهار فملأته وناولته لأبي الحسن فشربه: ثم أخذت العود وقالت: لا يغني على قدحي غيري، ثم شدت الأوتار وأنشدت هذه الأشعار:
              غرائب الدمع في خديه تضطرب          وجداً ونار الهوى في صدره تتقد
              يبكي من القرب خوفاً من تباعدهم          فالدمع إن قربوا جار وإن بعدوا
فلما سمع علي بن بكار وأبو الحسن والحاضرون شعر شمس النهار كادوا يطيروا من الطرب ولعبوا وضحكوا، فبينما هم على هذا الحال إذا بجارية أقبلت وهي ترتعد من الخوف وقالت: يا سيدتي وصل أمير المؤمنين وهاهو بالباب ومعه عفيف ومسرور وغيرهما، فلما سمعوا كلام الجارية كادوا أن يهلكوا من الخوف فضحكت شمس النهار وقالت: لا تخافوا، ثم قالت للجارية: ردي عليهم الجواب بقدر ما نتحول من هذا المكان، ثم إنها أمرت بغلق باب القبة ثم خرجت إلى البستان وجلست على سريرها وأمرت جارية أن تكبس رجليها وأمرت بقية الجواري أن يمضين إلى أماكنهن وأمرت الجارية أن تدع الباب مفتوحاً ليدخل الخليفة فدخل مسرور ومن معه وكانوا عشرون وبأيديهم السيوف فسلموا على شمس النهار، فقالت لهم: لأي شيء جئتم؟ فقالوا: إن أمير المؤمنين يسلم عليك وقد استوحش لرؤيتك ويخبرك أنه كان عنده اليوم سرور وحظ زائد وأحب أن يكون ختام السرور بوجودك في هذه الساعة، فهل تأتين عنده أو يأتي عندك؟ فقامت وقبلت الأرض وقالت سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ثم أمرت بإحضار القهرمانات والجواري فحضرن وأظهرت لهن انها مقبلة على ما أمر به الخليفة وكان المكان كاملاً في جميع أموره ثم قالت للخدم: امضوا إلى أمير المؤمنين واخبروه أنني في انتظاره بعد قليل إلى أنأهيئ له مكاناً بالفرش والأمتعة فمضى الخدم مسرعين إلى أمير المؤمنين.
ثم إن شمس النهار قلعت ودخلت إلى معشوقها علي بن بكار وضمته إلى صدرها وودعته فبكى بكاءً شديداً وقال: يا سيدتي هذا الوداع فمتعيني به لعله يكون على تلف نفسي وهلاك روحي في هواك ولكن أسأل الله أن يرزقني الصبر على ما بلاني به من محبتي، فقالت له شمس النهار: والله ما يصير في التلف إلا أنا فإنك قد تخرج إلى السوق وتجتمع بمن يسليك فتكون مصوناً وغرامك مكنوناً وأما أنا فسوف أقع في البلاء خصوصاً وقد وعدت الخليفة بميعاد فربما يلجقني من ذلك عظيم الخطر بسبب شوقي إليك وحبي لك وتعشقي فيك وتأسفي على مفارقتك، فبأي لسان أغني؟ وبأي قلب أحضر عند الخليفة؟ وبأي نظر أنظر إلى مكان ما أنت فيه؟ وكيف أكون في حضرة لم تكن بها؟ وبأي ذوق أشرب مداماً ما أنت حاضره؟ فقال لها أبو الحسن: لا تتحيري واصبري ولا تغفلي عن منادمة أمير المؤمنين هذه الليلة ولا تريه تهاوناً، فبينما هما في الكلام إذا بجارية قدمت وقالت: يا سيدتي جاء غلمان أمير المؤمنين فنهضت قائمة وقالت للجارية: خذي أبا الحسن ورفيقه واقصدي بهما أعلى الروشن المطل على البستان ودعيهما هناك إلى الظلام ثم تحيلي في خروجهما فأخذتهما وأطلعتهما في الروشن وأغلقت الباب عليهما ومضت إلى حال سبيلها وصارا ينظران إلى البستان، وإذا بالخليفة قدم وقدامه نحو المائة خادم بأيديهم السيوف وحواليه عشرون جارية كأنهن الأقمار عليهن أفخر ما يكون من الملبوس وعلى رأس كل واحدة تاج مكلل بالجواهر واليواقيت وفي يد كل واحدة شمعة موقودة والخليفة يمشي بينهن وهن محيطات به من كل ناحية ومسرور وعفيف ووصيف قدامه وهو يتمايل بينهم. فقامت شمس النهار وجميع من عندها من الجواري ولا قينه من البستان وقبلن الأرض بين يديه ولم يزلن سائرات أمامه إلى أن جلس على السرير والذين في البستان من الجواري والخدم وقفوا حوله والشموع موقودة والآلات تضرب إلى أن أمرهم بالإنصراف والجلوس على الأسرة فجلست شمس النهار على السرير بجانب سرير الخليفة وصارت تحدثه، كل ذلك وأبو الحسن وعلي بن بكار ينظران ويسمعان والخليفة لم يرهما.
ثم إن الخليفة صار يلعب مع شمس النهار، وأمر بفتح القبة ففتحت وشرعوا طيقانها وأوقدوا الشموع حتى صار المكان وقت الظلام كالنهار، ثم إن الخدم صاروا ينقلون آلت المشروب فقال أبو الحسن: إن هذه الآلات والمشروب والتحف ما رأيت مثله وهذا شيء من أصناف الجواهر ما سمعت بمثله وقد خيل لي في المنام وقد اندهش عقلي وخفق قلبي، وأما علي بن بكار فإنه لما فارقته شمس النهار لم يزل مطروحاً على الأرض من شدة العشق فلما أفاق صار ينظر إلى هذه الفعال التي لا يوجد مثلها فقال لأبي الحسن: يا أخي أخشى أن ينظرنا الخليفة أو يعلم حالنا وأكثر خوفي عليك وأما أنا فإني أعلم نفسي من الهالكين وما سبب موتي إلا العشق والغرام وفرط الوجد والهيام ونرجو من الله الخلاص مما بلينا. و لم يزل علي بن بكار وأبو الحسن ينظران من الروشين إلى الخليفة وما هو فيه حتى تكاملت الحضرة بين يدي الخليفة، ثم إن الخليفة التفت إلى جارية من الجواري وقال: هات ما عندك يا غرام من السماع المطرب فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:  
             وما وجد إعرابية بان أهلهـا          فحنت إلى بان الحجاز ورنده
             إذا آنست ركباً تكفل شوقهـا          بنار قراه والدمـوع بـورده
             بأعظم من وجدي بحبي وغنما        يرى أنني أذنبت ذنبـاً بـوده
فلما سمعت شمس النهار هذا الشعر وقعت مغشياً عليها من فوق الكرسي الذي كانت عليه وغابت عن الوجود فقام الجواري واحتملنها، فلما نظر علي بن بكار من الروشن وقع مغشياً عليه، فقال أبو الحسن: إن القضاء قسم الغرام بينكما بالتسوية، فبينما هما يتحدثان إذا بالجارية التي أطلعتها الروشن جاءتهما وقالت: يا أبا الحسن انهض أنت ورفيقك وانزلا فقد ضاقت علينا الدنيا وأنا خائفة أن يظهر أمرنا فقوما في هذه الساعة وإلا متنا. فقال أبو الحسن: فكيف ينهض معي هذا الغلام ولا قدرة له على النهوض؟ فصارت الجارية ترش ماء الورد على وجهه حتى أفاق فحمله أبو الحسن هو والجارية ونزلا به من الروشن ومشيا قليلاً، ثم فتحت الجارية بيدها فجاء زورق فيه إنسان يقذف فأطلعتهما الجارية في الزورق وقالت للذي في الزورق: أطلعهما في ذلك البر، فلما نزلا في الزورق وفارق البستان نظر علي بن بكار إلى القبة والبستان وودعهما بهذين البيتين:
                مددت إلى التوديع كفـاً ضـعـيفة               وأخرى على الرمضاء تحت فؤادي
                 فلا كان هذا آخر الـعـهـد بـين                ولا كان هـذا الـزاد آخـر زادي
ثم إن الجارية قالت للملاح: أسرع بهما، فصار يقذف لأجل السرعة والجارية معهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملاح صار يقذف والجارية معهم إلى أن قطعوا ذلك الجانب وعدوا إلى البر الثاني، ثم انصرفت الجارية وودعتهما وطلعا في البر وقالت لهما: كان قصدي أن لا أفارقكما لكنني لا أقدر أن أسير إلى مكان غير هذا الموضع، ثم إن الجارية عادت وصار علي بن بكار مطروحاً بين يدي أبي الحسن لا يستطيع النهوض فقال له أبو الحسن: إن هذا المكان غير أمين ونخشى على أنفسنا من التلف في هذا المكان بسبب اللصوص وأولاد الحرام فقام علي بن بكار يتمشى قليلاً وهو لا يستطيع المشي، وكان أبو الحسن له في ذلك الجانب أصدقاء فقصد من يثق به ويركن إليه منهم فدق بابه فخرج إليه مسرعاً.
فلما رآهما رحب بهما ودخل بهم إلى منزله وأجلسهما وتحدث معهما وسألهما أين كانا فقال أبو الحسن: قد خرجنا في هذا الوقت وقد أحوجنا إلى هذا الأمر إنسان عاملته في دراهم وبلغني أنه يريد السفر بمالي فخرجت في هذه الليلة وقصدته واستأنست برفيقي هذا علي بن بكار، وجئنا لعلنا ننظره فتوارى منا ولم نره وعدنا بلا شيء وشق علينا العودة في هذا الليل ولم نر لنا محلاً غير محلك فجئنا إليك على عوائدك الجميلة فرحب بهما واجتهد في إكرامهما وأقاما عنده بقية ليلتهما.
فلما أصبح الصباح خرجا من عنده وما زالا يمشيان حتى وصلا إلى المدينة ودخلا وجازا على بيت إبي الحسن فحلف على صاحبه علي بن بكار وأدخله بيته فاضجعا على الفراش قليلاً، ثم أفاقا فأمر أبو الحسن غلمانه أن يفرشوا البيت فرشاً فاخراً ففعلوا، ثم إن أبا الحسن قال في نفسه: لا بد أن أؤانس هذا الغلام وأسليه عما هو فيه فإني أدرى بأمره، ثم إن علي بن بكار لما أفاق استدعى بماء فحضروا له الماء فقام وتوضأ وصلى ما فاته من الفروض في يومه وليلته وصار يسلي نفسه بالكلام.
فلما رأى منه ذلك أبو الحسن تقدم إليه وقال: على الأليق بما أنت فيه أن تقيم عندي هذه الليلة لينشرح صدرك وينفرج ما بك من كرب الشوق وتتلاهى معنا، فقال علي بن بكار: أفعل يا أخي ما بدا لك فإني على كل حال غير ناج مما أصابني فاصنع ما أنت صانع، فقام أبو الحسن واستدعى غلمانه وأحضر أصحابه وأرسل إلى أرباب المغاني والآلات فحضروا وأقاموا على أكل وشرب وانشراح باقي اليوم إلى المساء ثم أوقدوا الشموع ودارت بينهم كؤوس المنادمة وطاب لهم الوقت فأخذت المغنية العود وجعلت تقول:  
                 رميت من الزمان بسهم لحظ            فأضناني وفارقت الحبـائب
                 وعاندني الزمان وقل صبري            وإني قبل هذا كنت حاسب
فلما سمع علي بن بكار كلام المغنية خر مغشياً عليه ولم يزل في غشيته إلى أن طلع الفجر ويئس منه أبو الحسن ولما طلع النهار أفاق وطلب الذهاب إلى بيته فلم يمنعه أبو الحسن خوفاً من عاقبة أمره فاتاه غلمانه ببغلة وأركبوه وصار معه أبو الحسن إلى أن أدخله منزله فلما اطمأن في بيته حمد الله أبو الحسن على خلاصه من هذه الورطة وصار يسليه وهو لا يتمالك نفسه من شدة الغرام ثم إن أبا الحسن ودعه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ودعه، فقال له علي بن بكار: يا أخي لا تقطع عني الأخبار فقال: سمعاً وطاعة ن ثم إن أبا الحسنقام من عنده وأتى إلى دكانه وفتحهافما جلس غير قليل حتى أقبلت إليه الجارية وسلمت فرد عليها السلام ونظر إليها فوجدهاخافقة القلب يظهر عليها أثر الكآبة، فقال لها أهلاً وسهلاً كيف حال شمس النهار؟ فقالت: سوف أخبرك بحاله، كيف حال علي بن بكار فأخبرها أبو الحسن بجميع ما كان من أمره فتأسفت وتأوهت وتعجبت من ذلك الأمر ثم قالت: إن حال سيدتي اعجب من ذلك ن لما توجهتم رجعت وقلبي يخفق عليكم وماصدقت بنجاتكم فلما رجعت وجدت سيتي مطروحة في القبة، لا تتكلم ولا ترد على احد وامير المؤمنين جالس عند رأسها لا يجد من يخبره بخبرها ولم يعلم ما بها ولم تزل في غشيتها إلى نصف الليل ثم أفاقت، فقال لها أمير المؤمنين: ما الذي أصابك يا شمس النهار؟ وما الذي اعتراك في هذه الليلة؟ فلما سمعت شمس النهار كلام الخليفة قبلت أقدامه وقالت له: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك إنه خامرني خلط، فأضرم النار في جسدي فوقعت مغشياً علي من شدة ما بي ولا اعلم كيف كان حالي، فقال لها الخليفة: ما الذي استعملتيه في نهارك؟ قالت: أفطرت على شيء لم آكله قط ثم أظهرت القوة واستدعيت بشيء من الشراب فشربته وسألت أمير المؤمنين أن يعود إلى انشراحه فعاد إلى الجلوس في القبة فلما جئت إليها سألتني بما فعلت معكما وأخبرتها بما أنشده علي بن بكار فسكتت، ثم إن أمير المؤمنين جلس وأمر الجارية بالغناء فأنشدت هذين البيتين:
              ولم يصف لي شيء من العيش بعدكم            فياليت شعري كيف حالكم بـعـدي
              يحق لدمعي أن يكون مـن الـدمـا                إذا كنتم تبكون دمعاً على بـعـدي
فلما سمعت هذا الشعر وقعت مغشياً عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
و في الليلة الثامنة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنالجارية قالت لأبي الحسن: إن سيدتي لما سمعت هذا الشعر وقعت مغشياً عليها فأمسكت يدها ورششت ماء الورد على وجهها فأفاقت، فقلت لها: يا سيدتي لا تهتكي نفسك ومن يحويه قصرك بحياة محبوبك أن تصبير، فقالت: هل في الأمر أكثر من الموت؟ فأنا أطلبه لأن فيه راحتي، فبينما نحن في هذا القول إذ غنت جارية بقول الشاعر:
                وقالوا لعل الصبر يعقب راحة         فقلت وأين الصبر بعد فراقه
                وقد أكيد الميثاق بيني وبـينـه           نقطع حبال الصبر عند عناقه
فلما فرغت من الشعر وقعت مغشياً عليها فنظرها الخليفة فأتى مسرعاً إليها وأمر برفع الشراب وأن تعود كل جارية إلى مقصورتها وأقام عندها باقي ليلته إلى أن أصبح الصباح فاستدعى الأطباء وأمرهم بمعالجتها ولم يعلم بما هي فيه من العشق والغرام وأقمت عندها حتى ظننت أنها قد انصلح حالها وهذا الذي عاقبي عن المجيء إليكما وقد خلقت عندها جماعة من خواصها لما أمرتني بالمسير إليكما لآخذ خبر علي بن بكار واعود إليها.
فلما سمع أبو الحسن كلامها تعجب وقال لها: والله أخبرتك بجميع ما كان من أمره فعودي إلى سيدتك وسلمي عليها وحثيها على الصبر وقولي لها اكتمي السر وأخبريها أني عرفت امرها وهو امر صعب يحتاج إلى التدبير فشكرته الجارية ثم ودعته وانصرفت إلى سيدتها. هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر أبي الحسن فإنه لم يزل في دكانه إلى آخر النهار فلما مضى النهار قام وقفل دكانه وأتى إلى دار علي بن بكار فدق الباب فخرج له بعض غلمانه وأدخله فلما دخل عليه تبسم واستبشر بقدومه وقال له: يا أبا الحسن اوحشتني لتخلفك عني في هذا اليوم وروحي متعلقة بك باقي عمري، فقال له أبو الحسن: دع هذا الكلام فلو أمكن فداءك كنت أفديك بروحي وفي هذا اليوم جاءت جارية شمس النهار وأخبرتني أنه ما اعاقها عن المجيء إلا جلوس الخليفة عند سيدتها وأخبرتني بما كان من امر سيدتها وحكى له جميع ما سمعه من الجارية فتأسف علي بن بكار غاية الأسف وبكى ثم التفت إلى أبي الحسن وقال له: بالله أن تساعدني على ما بليت به وأخبرني ماذا تكون الحيلة؟ وإني أسألك من فضلك المبيت عندي في هذه الليلة لأستانس بك، فامتثل أبو الحسن أمره واجابه إلى المبيت عنده، وباتا يتحدثان في تلك الليلة، ثم إن علي بن بكار بكى وأرسل العبرات وأنشد هذه الأبيات:
                 غفرت بسيف اللحظ ذمة مغفري           وفرت برمح القد درع تصبري
                 وجعلت لنا من تحت مسكة خالها           كافور فجر شق ليل العنبـري
                  فزعت فضرست العقيق بلؤلـؤ             سكنت فرائده غدير الـسـكـر
                 وتنهدت جزعاً فأثـر كـفـهـا                في صدرها فنظرت ما لم أنظر
                 أقلام مرجان كتبين تـعـتـبـر               بصحيفة البلور خمسة أسطـر
                 يا حامل السيف الصقيل إذا رنت          إياك ضربة جفنها المتكـسـر
                 وتوق يا رب القناة الطـعـن إن             حملت عليك من القوم بأسمـر
فلما فرغ علي بن بكار من شعره صرخ صرخة عظيمة ووقع مغشياً عليه فظن أبو الحسن أن روحه خرجي من جسده ولم يزل في غشيته حتى طلع النهار فأفاق وتحدث مع أبي الحسن ولم يزل أبو الحسن جالساً عند علي بن بكار إلى صحوة النهار. ثم انصرف من عنده وجاء إلى دكانه وفتحها وإذا بالجارية جاءته ووقفت عنده، فلما نظر إليها أومأت إليه بالسلام فرد عليها السلام وبلغته سلام سيدتها وقالت له: كيف حال علي بن بكار؟ فقال لها: يا جارية لا تسألي عن حاله وما هو فيه من شدة الغرام فإنه لا ينام الليل ولا يستريح النهار وقد أنحله السهر وغلب عليه الضجر وصار في حال لا يسر حبيب فقالت له: إن سيدتي تسلم عليك وقد كتبت له ورقة وهي في حال أعظم من حاله وقد سلمتني الورقة، وقالت: لا تأتيني إلا بجوابها وافعلي ما أمرتك به وها هي الورقة معي فهل لك أن تسير معي إلى علي بن بكار، وتأخذ منه الجواب؟ فقال لها أبو الحسن: سمعاً وطاعة، ثم قفل الدكان وأخذ معه الجارية وذهب بها إلى مكان غير الذي جاء منه ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى دار علي بن بكار، ثم أوقف الجارية على الباب ودخل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ذهب بالجارية ودخل البيت فلما رآه علي بن بكار فرح به فقال له أبو الحسن: سبب مجيئي أن فلاناً أرسل إليك جاريته برقعة تتضمن سلامه وذكر فيها أن سبب تاخره عنك عذر حصل له، والجارية واقفة بالباب فهل تأذن لها بالدخول؟ فقال علي بن بكار: أدخلوها وأشار له أبو الحسن انها جارية شمس النهار ففهم الإشارة، فلما رآها تحرك وفرح وقال لها بالإشارة: كيف حال السيدة شفاها الله وعافاها؟ فقالت بخير، ثم أخرجت الورقة ودفعتها له فأخذها وقبلها وناولها لأبي الحسن فوجد مكتوبا فيها هذه الأبيات:
                  ينبيك هذا الرسول عن خبـري            فاستغن في ذكره عن النظـر
                  خلقت صبا بحـبـكـم دنـفـا                 وطرفه لا يزال بالـسـهـر
                  أكابد الصبر في البلاء فـمـا               قلبي حلق مواقـع الـقـدر
                  فقر عيناً فلست تبـعـد عـن                قلبي ولا يوم غبت عن بصري
                  وانظر إلى جسمك النحيل وما             قد حله واسـتـدل بـالأثـر
و بعد فقد كتبت لك كتاباً بغير بيان وأطلقت لك بغير لسان وجملت شرح حالي أنلي عيناً لا يفارقها السهر وقلباً لا تبرح عنه الفكر فكأنني قط ما عرفت صحة ولا فرحة ولا رأيت منظراً باهياً ولا قطعت عيشاً هنياً، وكانني خلقت من الصبابة ولم ألم الوجد والكآبة فعلى السقام مترادف والغرام متضاعف والشوق متكاسر وصوت كما قال الشاعر:
                القلب منقبض والفكر منبسـط            والعين ساهرة والجسم متعوب
                والصبر منفصل والهجر متصل          والعقل مختبل والقلب مسلوب
و اعلم أن الشكوى لا تطفئ نار البلوى لكنها تتعلل من أعله الإشتياق وأتفله الفراق وغني اتسلى بذكر نفط الوصال وما أحسن قول من قال:
               إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا           فأين حلاوات الرسائل والكـتـب
قال أبو الحسن: فلما قرأناها هيجت ألفاظي بلابلي وأصابت معانيها مقاتلي ثم دفعتها إلى الجارية فلما اخذتها قال لها علي بن بكار: أبلغي سيدتك سلامي وعرفيها بوجدي وغرامي وامتزاج المحبة بلحمي وعظامي واخبريها انني محتاج إلى من ينقذني من بحر الهلاك وينجيني من هذا الإرتباك، ثم بكى فبكت الجارية لبكائه وودعته وخرجت من عنده وخرج أبو الحسن معها، ثم ودعها ومضى إلى دكانه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ودع الجارية ورجع إلى دكانه فلما جلس فيه وجد قلبه انقبض وضاق صدره وتحير في أمره ولم يزل في فكر بقية يزمه وليلته وفي اليوم الثاني ذهب إلى علي بن بكار وجلس عنده حتى ذهبت الناس وساله عن حاله فأخذ في شكوى الغرام وما به من الوجد والهيام وأنشد يقول:
                   شكا ألم الغرام الناس قبلـي         وروع بالنوى حي ومـيت
                  واما مثل ما ضمت ضلوعي        فإني لا سمعـت ولا رأيت
فقال أبو الحسن: أنا ما رأيت ولا سمعت بمثلك في محبتك كيف يكون هذا الوجد وضعف الحركة، وقد تعلقت بحبيب موافق فكيف إذا تعلقت بحبيب مخالف مخادع فكان أمرك ينكشف؟ قال ابو الحسن: فركن علي بن بكار إلى كلامي وشكرني على ذلك وكان لي صاحب يطلع على أمري وامر علي بن بكار ويعلم أننا متوافقان ولم يعلم أحد ما بيننا غيره وكان يأتيني فيسألني عن حال علي بن بكار وبعد قليل يسألني عن الجارية فقلت له: قد دعته إليها، وكان بينه وبينها ما لا مزيد عليه وهذا آخر ما انتهى من أمرهما ولكن دبرت لنفسي أمر أريد عرضه عليك. فقال له صاحبه: ما هو؟ قال أبو الحسن: اعلم أن رجل معروف بكثرة المعاملات بين الرجال والنساء وأخشى أن ينكشف أمرهما فيكون سبباً لهلاكي وأخذ مالي وهتك عيالي وقد اقتضى رأيي أن أجمع مالي وأجهز حالي وأتوجه إلى مدينة البصرة وأقيم بها حتى أنظر ما يكون من أحوالهما بحيث لا يشعر بي أحد فإن المحبة قد تمكنت منهما ودارت المراسلة بينهما، والحال أن الرسول بينهما جارية وهي كاتمة لأسرارهما واخشى أن يغلب عليها الضجر فتبوح بسرهما لأحد فيشيع خبرهما ويؤدي ذلك إلى هلاكي ويكون سبباً لتلفي وليس لي عذر عند الناس، فقال له صاحبه قد أخبرتني بخبر خطير يخاف من مثله العاقل الخبير كفاك الله شر ما تخافه وتخشاه ونجاك مما عقباه وهذا الرأي هو الصواب.
فانصرف أبو الحسن إلى منزله وصار يقضي مصالحه ويتجهز للسفر إلى البصرة، وقد قضى مصالحه وسافر إلى البصرة فجاء صاحبه بعد ثلاثة أيام ليزوره فلم يجده فسأل عنه جيرانه فقالوا له: إنه توجه من مدة ثلاثة أيام إلى البصرة لأن له معاملة عند تجارها فذهب ليطالب أرباب الديون وعن قريب يأتي، فاحتار الرجل في أمره وصار لا يدري أين يذهب وقال: يا ليتني لم أفارق أبا الحسن، ثم دبر حيلة يتوصل بها إلى علي بن بكار فقصد داره وقال لبعض غلمانه: استأذن لي سيدك لأدخل أسلم عليه، فدخل الغلامو اخبر سيده به ثم عاد إليه وأذن له بالدخول فدخل عليه فوجده ملقى على الوسادة فسلم عليه فرد عليه السلام ورحب. ثم إن الرجل اعتذر إليه في تخلفه عنه تلك المدة، ثم قال له: يا سيدي إن بيني وبينك وبين أبي الحسن صداقة وإني كنت أودعه أسراري ولا أنقطع عنه ساعة فغبت في بعض المصالح مع جماعة من أصحابي مدة ثلاثة أيام ثم جئت إليه فوجدت دكانه مقفلة فسألت عنه الجيران فقالوا: إنه توجه إلى البصرة ولم أعلم له صديقاً أوفى منك، فبالله أن تخبرني بخبره، فلما سمع علي بن بكار بكلامه تغير لونه واضطرب وقال: لم أسمع قبل هذا اليوم خبر سفره وإن كان الأمر كما ذكرت فقد حصل لي التعب ثم أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
             قد كنت أبكي على ما فات مني من فرح        وأهل ودي جمـيعـاً غـير أشـتـات
            واليوم فـرق مـا بـينـي وبـينـهـم                 دهري فأبكي على أهـل الـمـودات
ثم إن علي بن بكار أطرق رأسه إلى الأرض يتفكر وبعد ساعة رفع رأسه إلى خادم له وقال له: امض إلى دار أبي الحسن واسأل عنه هل هو مقيم أم مسافر؟ فإن قالوا: سافر فاسأل إلى أي ناحية توجه؟ فمضى الغلام وغاب ساعة ثم أقبل إلى سيده وقال: إني لما سألت عن أبي الحسن أخبرني أتباعه أنه مسافر إلى البصرة ولكن وجدت جارية واقفة على الباب فلما رأتني عرفتني ولم أعرفها وقالت لي: هل أنت غلام علي بن بكار؟ فقلت لها: نعم فقالت: إني معي رسالة إليه من عند أعز الناس عليه فجاءت معي وهي واقفة على الباب، فقال علي بن بكار: أدخلها، فطلع الغلام إليها وأدخلها فنظر الرجل الذي عند علي بن بكار إلى الجارية فوجدها ظريفة ثم إن الجارية تقدمت إلى علي بن بكار وسلمت عليه.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما دخلت على علي بن بكار تقدمت إليه وسلمت عليه وتحدثت معه سراً وصار يقسم في أثناء الكلام ويحلف أنه لم يتكلم بذلك، ثم ودعته وانصرفت وكان الرجل صاحب أبي الحسن جواهرجياً فلما انصرفت الجارية وجد للكلام محلاً فقال لعلي بن بكار: لا شك ولا ريب لدار الخلافة عليك مطالبة أو بينك وبينها معاملة فقال: ومن أعلمك بذلك؟ فقال: معرفتي بهذه الجارية لأنها جارية شمس النهار وكانت جاءتني من مدة برقعة مكتوب فيها أنها تشتهي عقد جواهر فأرسلت لها عقداً ثميناً.
فلما سمع علي بن بكار كلامه اضطرب حتى غشي عليه ثم عاد إلى نفسه وقال: يا أخي سألتك بالله من أين تعرفها؟ فقال له الجواهرجي: دع الإلحاح في السؤال، فقال له علي بن بكار: لا أرجع عنك إلا إذا أخبرتني بالصحيح فقال له الجواهرجي: أنا أخبرك بحيث لا يدخلك مني وهم ولا يعتريك من كلامي انقباض ولا أخفي عنك سراً وأبين لك حقيقة الأمر ولكن بشرط أن تخبرني بحقيقة حالك وسبب مرضك، فأخبره بخبره ثم قال: والله يا أخي ما حملني على كتمان أمري من غيرك إلا مخافة أن الناس تكشف أستار بعضها فقال الجواهرجي لعلي بن بكار: وأنا ما اردت اجتماعي بك إلا لشدة محبتي لك وغيرتي عليك وشفقتي على قلبك من ألم الفراق عسى أن أكون لك مؤنساً نيابة عن صديقي أبو الحسن مدة غيبته فطب نفساً وقر عيناً فشكره علي بن بكار على ذلك وأنشد هذين البيتين:
              ولو قلت اني صابر بعـد بـعـده          لكذبني دموع وفرط نـحـيبـي
              وكيف أداري مدمعـاً جـريانـه           على صحن خدي من فراق حبيبي
ثم إن علي بن بكار سكت ساعة من الزمان وبعد ذلك قال للجواهرجي أتدري ما أمرتني به الجارية؟ فقال: لا والله يا سيدي فقال: إنها زعمت أني أشرت على أبي الحسن بالمسير إلى مدينة البصرة وانني دبرت بذلك حيلة لأجل عدم المراسلة والمواصلة فحلفت لها أن ذلك لم يكن فلم تصدقني ومضت إلى سيدتها وهي على ما هي عليه من سوء الظن لأنها كانت تصغي إلى أبي الحسن، فقال الجواهرجي: يا أخي إني فهمت من حال هذه الجارية هذا الأمر ولكن إن شاء الله تعالى أمون عوناً لك على مرادك فقال له علي بن بكار: وكيف تعمل معها وهي تنفر كوحش الفلاة؟ فقال له: لا بد أن أبذل جهدي في مساعدتك واحتيالي في التوصل إليها من غير كشف ستر ولا مضرة ثم استأذن في الإنصراف فقال له علي بن بكار: يا أخي عليك بكتمان السر ثم نظر إليه وبكى فودعه وانصرف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والتسعون بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواهرجي ودعه وانصرف وهو لا يدري كيف يعمل في إسعاف علي بن بكار ومازال ماشياً وهو متفكر في أمره إذ رأى ورقة مطروحة في الطريق فأخذها ونظر عنوانها وقرأها فإذا هي من المحب الأصغر إلى الحبيب الأكبر ففتح الورقة فرأى مكتوباً فيها هذين البيتين:
             جاء الرسول بوصل منك يطمعني        وكان أكثر ظني أنـه وهـمـا
              فما فرحت ولكن زادني حـزنـاً          علمي بأن رسولي لم يمن فهمـا
و بعد فاعلم يا سيدي أنني لم أدر ما سبب قطع المراسلة بيني وبينك فإن يكن صدر منك الجفاء فأنا أقابله بالوفاء وإن يكن ذهب منك الوداد فانا أحفظ الود على البعاد كما يقول الشاعر:
                به أحتمل وأستطل أصبر وعزاهن           وول أقبل وقل اسمع ومر اطلع
فلما قرآها إذا بالجارية أقبلت تتلفت يميناً وشمالاً فرأت الورقة في يده فقالت: إن هذه الورقة وقعت مني فلم يرد عليها جواباً ومشى ومشت الجارية خلفه إلى أن أقبل على داره ودخل والجارية خلفه فقالت له: يا سيدي رد لي هذه الورقة فإنها سقطت مني فالتفت إليها وقال: يا جارية لا تخافي ولا تحزني ولكن أخبريني الصدق فإني كتوم للأسرار وأحلفك يميناً أنك لا تخفي عني شيئاً من أمر سيدتك فعسى الله أن يعينني على قضاء أغراضك ويسهل الأمور الصعاب على يدي، فلما سمعت الجارية كلامه قالت: يا سيدي ما ضاع سر أنت حافظه ولا خاب أمر أنت تسعى في قضائه ن اعلم أن قلبي مال إليك فانا أخبرك بحقيقة الأمر لتعطيني الورقة، ثم أخبرته بالخبر كله وقالت: والله على ما أقول شهيد، فقال لها: صدقت فإن عندي علم بأصل الخبر ثم حدثها بحديث علي بن بكار وكيف أخذ ضميره وأخبرها بالخبر من أوله إلى آخره. فلما سمعت ذلك فرحت واتفقا على انها تأخذ الورقة وتعطيها لعلي بن بكار وجميع ما يحصل ترجع إليه وتخبره به فأعطاها الورقة فأخذتها وختمتها كما كانت وقالت: إن سيدتي شمس النهار أعطتها إلي مختومة فإذا قرأها ورد جوابها أتيتك به. ثم إن الجارية ودعنه وتوجهن إلى علي بن بكار فوجدته في افنتظار فاعطته الورقة وقرأها ثم كتب لها ورقة رد للجواب وأعطاها لها فأخذتها ورجعت بها إلى الجواهرجي حسب الإتفاق ففض ختمها وقرأها فرأى مكتوباً فيها:
              إن الرسول الذي كانت رسائلـنـا           مكتومة عنده ضاقت وقد غضبـا
              فاستخلصوا لي رسولاً منكم ثـقة           يستحسن الصدق لا يستحسن الكذبا
و بعد فإني لم يصدر مني جفاء ولا تركت وفاء ولا نقضت عهداً ولا قطعت وداً ولا فارقت أسفاً وو لا لقيت بعد الفراق إلا تلفاً ولا علمت أصلاً بما ذكرتم ولا أحب غير ما احببتم وحق عالم السر والنجوى وا قصدي غير الإجتماع بمن أهوى وشأني كتمان الغرام وإن أمرضني السقام وهذا شرح حالي والسلام. فلما قرأ الجواهرجي هذه الورقة وعرف ما فيها بكى بكاءً شديداً ثن إن الجارية قالت له: لا تخرج من هذا المكان حتى أعود إليك لأنه قد اتهمني بأمر من الأمور وهومعذور وانا أريد أن أجمع بينك وبين سيدتي شمس النهار بأي حيلة فإني تركتها مطروحة وهي تنتظر مني رد الجواب. ثم إن الجارية مضت إلى سيدتها ولم تغب إلا قليلاً وعادت إلى الجواهرجي وقالت له: احذر أن يكون عندك جارية أم غلام؟ فقال: ما عندي غير جارية سوداء كبيرة السن تخدمني فقامت الجارية وأغلقت الأبواب بين جارية الجواهرجي وبينه وصرفت غلمانه إلى خارج الدار ثم خرجت الجارية وعادت ومعها جارية خلفها ودخلت دار الجواهرجي فعبقت الدار من الطيب فلما رآها الجواهرجي نهض قائماً ووضع لها مخدة وجلس بين يديها فمكثت ساعة لا تتكلم حتى استراحت ثم كشفت وجهها فخيل للجواهرجي أن الشمس أشرقت في منزله ثم قالت لجارتها: هذا الرجل الذي قلت لي عليه؟ فقالت الجارية: نعم فالتفتت إلى الجواهرجي وقالت له: كيف حالك؟ قال: بخير، ودعا لها، فقالت: إنك حملتنا المسير إليك وإن نطلعك على ما يكون من سرنا، ثم سألته عن اهله وعياله فأخبرها بجميع احواله وقال لها: إن لي داراً غير هذه الدار جعلتها للإجتماع بالاصحاب والأخوان ليس لي فيها إلا ما ذكرته لجاريتك، ثم سألته عن كيفية اطلاعه على أصل القصة فاخبرها بما سألته عنه من أول الأمر إلى آخره فتأوهت على فراق إبي الحسن وقالت: يا فلان اعلم أن أرواح الناس متلائمة في الشهوات والناس بالناس ولا يتم عمل إلا بقول، ولا يتم غرض إلا بمعين، ولا تحصل راحة إلا بعد تعب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شمس النهار قالت للجواهرجي: لا تحصل راحة إلا من بعد تعب ولا يظهر نجاح إلا من ذوي مروءة، وقد أطلعتك الآن على أمرنا وصار بيدك هتكاً ولا زيادة لما أنت عليه من المروءة، فأنت قد علمت إن جاريتي هذه كاتمة لسري وبسبب ذلك لها رتبة عظيمة عندي وقد اختصصتها بمهمات أموري فلا يكن عندك أعز منها وأطلعها على أمرك وطب نفساً فأنت آمن مما تخافه من جهتنا ومما يسد عليك موضع إلا وتفتحه لك وهي تأتيك من عندي بأخبار علي بن بكار وتكون أنت الواسطة في التبليغ بيني وبينه.
ثم إنشمس النهار قامت وهي لا تستطيع القيام ومشت فتمشى بين يديها الجواهري حتى وصلت إلى باب الدار، ثم رجع وقعد في موضعه بعد أن نظر من حسنها ما بهره وسمع من كلامها ما حير عقله وشاهد من ظرفها وأدبها ما أدهشه، ثم استمر يتفكر في شمائلها حتى سكنت نفسه وطلب الطعام فأكل ما يمسك رمقه، ثم غير ثيابه وخرج من داره وتوجه إلى علي بن بكار غلمانه ومشوا بين يديه إلى أن وصلوا إلى سيدهم فوجدوه ملقى على فراشه.
فلما رأى الجواهرجي قال له: أبطأت علي فزدتني هماً على همي، ثم صرف غلمانه وأمر بغلق أبوابه وقال له: والله ما غمضت عيني من يوم ما فارقتني فإن الجارية جاءتني بالأمس ومعها رقعة مختومة من عند سيدتها شمس النهار وحكى له علي بن بكار على جميع ما وقع له معها وقال: لقد تحيرت في أمري وقل صبري وكان لي ابو الحسن أنيساً لأنه يعرف الجارية، فلما سمع الجواهرجي كلام ابن بكار ضحك فقال له ك تضحك من كلامي وقد استبشرت بك واتخذتك عدة للنائبات؟ ثم بكى وأنشد هذه الأبيات:
           وضاح من بكائي حين أبصرني        لو كان قاسى الذي قاسيت أبكاه
           لم يرث للمبتلي ممـا يكـابـده           إلا شبح منه قد طـال بـلـواه
           وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي       إلى حبيب زوايا القلب مـأواه
           حل الفؤاد مقيمـاً لا يفـارقـه            وقتاً ولكنه ضعيف قد عز لقياه
           ما لي سواه خليل أرتضي بـدلاً         وما اصطفيت حبيباً قط إلا هو
فلما سمع الجواهرجي منه هذا الكلام وفهم الشعر والنظام بكى لبكائه وأخبره بما جرى مع الجارية من حين فارقه فصار ابن بكار يصغي إلى كلامه وكلما سمع منه كلمة يتغير لون وجهه من صفرة إلى احمرار ويقوى جسمه مرة ويضعف أخرى، فلما انتهى إلى آخر الكلام بكى ابن بكار وقال له: يا أخي أنا على كل حال هالك فليت أجلي قريب وأسألك من فضلك أن تكون ملاطفي في جميع أموري إلى أن يقضي الله ما يريد وانا لا أخالف لك قولاً. فقال الجواهرجي: لا يطفئ عنك هذه النار إلا الإجتماع بمن شغفت بها ولكن في غير هذا المكان وإنما يكون ذلك عندي في بيت جنب بيتي الذي جاءتني فيه الجارية هي وسيدتها وهو الموضع الذي اختارته لنفسها والمقصود اجتماعكما ببعضكما وفيه تشكوان لبعضكما ما قاسيتما. فقال علي بن بكار: افعل ما تريد والذي تراه هو الصواب.
قال الجواهرجي: فأقمت عنده تلك الليلة أسامره إلى أنأصبح الصباح، ثم صليت الصبح وخرجت من عنده وذهبت إلى منزلي فما استقريت إلا قليلاً وسلمت علي فرددت عليها السلام وحدثتها بما كان بيني وبين علي بن بكار، فقالت الجارية: اعلم أن الخليفة توجه من عندنا وإن مجلسنا لا أحد فيه وهو أستر لنا وأحسن فقلت لها: كلامك صحيح ولكنه ليس كمنزلي هذا.
فقالت الجارية: إن الرأي ما تراه أنت وأنا ذاهبة إلى سيدي لأخبرها بما ذكرت وأعرض عليها ما قلت، ثم إن الجارية توجهت إلى سيدتها وعرضت عليها الكلام وعادت إلى منزلي وقالت لي: إن سيدتي رضيت بما قلته، ثم إن الجارية أخرجت من جيبها كيساً فيه دنانير وقالت: إن سيدتي تسلم عليك وتقول لك: خذ هذا واقض لنا ما نحتاج إليه، فأقسمت أني لا أصرف شيئاً منه فأخذته الجارية وعادت إلى سيدتها وقالت لها: إنه ما قبل الدراهم بل دفعها إلي، وبعد رواح الجارية ذهبت إلى داري الثانية وحولت إليها من الآلت والفرش ما يحتاج إليه الحال ونقلت إليها أواني الفضة والصيني وهيأت جميع ما نحتاج إليه من المآكل والمشرب. فلما حضرت الجارية ونظرت ما فعلته أعجبها وأمرتني بإحضار علي بن بكار فقلت: ما يحضر به إلا أنت، فذهبت إليه واحضرته على أتم حال وقد راقت محاسنه فلما جاء قابلته ورحبت به وأجلسته على مرتبنة تصلح له ووضعت بين يديه شيئاً من المشموم في بعض الأواني الصيني والبلور وصرت أتحدث معه ساعة من الزمان، ثم إن الجارية مضت وغابت إلى بعد صلاة المغرب ثم عادت ومعها شمس النهار ووصيفتان لا غير فلما رأت علي بن بكار ورآها سقطا على الأرض مغشياً عليهما واستمرا ساعة زمنية فلما أفاقا أقبلا على بعضهما ثم جلسا يتحدثان بكلام رقيق وبعد استعملا شيئاً من الطيب ثم إنهما صارا يشكران صنعي معهما. فقلت لهما: هل لكما في شيء من الطعام؟ فقالا نعم، فأحضرت شيئاً من الطعام فاكلا حتى اكتفيا ثم غسلا أيديهما ثم نقلتهما إلى مجلس آخر واحضرت لهما الشراب فشربا وسكرا ومالا على بعضهما، ثم إن شمس النهار قالت لي: يا سيدي كمل جميلك واحضر لنا عوداً أو شيئاً من آلت الملاهي حتى أننا نكمل حظنا في هذه الساعة، فقلت: على رأسي وعيني، ثم إني قمت واحضرت عوداً فأخذته وأصلحته ثم إنها وضعته في حجرها وضربت عليه جميلاً ثم أنشدت هذين البيتين:
           أرقت حتى كأني أعشق الأرقـا            وذبت حتى تراءى السقم لي خلقا
           وفاض دمعي على خدي فأحرقه           يا ليت شعري هل بعد الفراق لقا
ثم إنها أخذت في غناء الأشعار حتى حيرت الأفكار بأصوات مختلفات وإشارات رائقات وكاد المجلس أن يصح من شدة الطرب لما أتت فيه من مغانيها بالعجب، ثم قال الجواهرجي: ولما استقر بنا الجلوس ودارت بيننا الكؤوس أطربت الجارية بالنغمات وانشدت هذه الأبيات:
           وعد الحبيب بوصله ووفى لي           في ليلة ساعدها بـلـيالـي
           يا ليلة سمح الزمان لنا بـهـا             في غفلة الواشين والعـذال
           بات الحبيب يضمني بيمينـه             فضممته من فرحي بشمالي
           عانقته ورشفت خمرة ريقـه             وحظيت بالمعسول والعسال
ثم إن الجواهرجي تركهما في تلك الدار وانصرف إلى دار سكناه وبات فيها إلى الصباح، ولما أصبح الصبح صلى فرضه وشرب القهوة وجلس يفكر في المسير إليهما في داره الثانية، فبينما هو جالس إذ دخل عليه جاره وهو مرعوب وقال: يا أخي ما هان علي الذي جرى لك الليلة في دارك الثانية، فقلت له: يا أخي وأي شيء جرى في داري؟ فقال له: إن اللصوص قد رأوك بالأمس وأنت تنقل حوائجك إلى دارك الثانية فجاؤا إليها ليلاً وأخذوا ما عندك. وقد حضرت لداري تلك فوجدتها خالية من الأثاث، ولا أثر لعلي بن بكار وشمس النهار ولا لوصيفتيها، فدهشت لذلك وبعدفترة وجيزة جاءني شخص لا أعرفه فقال لي: إذا كنت تريد إعادة أغراضك إليك فسر معي ولا تتكلم بشيء، فسرت معه فأخذني لعند رفاقه الذين قالوا لي: أطلعنا على خبرك ولا تكذب في شيء، فقلت لهم: اعلموا إن حالي عجيب وأمري غريب فهل عندكم شيء من خبري؟ فقالوا: نعم نحن الذين أخذنا أمتعتك في الليلة الماضية وأخذنا صديقك والتي كانت تغني، فقلت لهم: أسبل الله عليكم ستره، أين صديقي هو والتي كانت تغني؟ فأشاروا إلي بأيديهم إلى ناحية وقالوا: ههنا ولكن يا أخي ما ظهر على سرهما أحد منا ومن حين أتينا بهما لم نجتمع عليهما ولم نسألهما عن حالهما لما رأينا عليهما من الهيبة والوقار وهذا هو الذي منعنا عن قتلهما فأخبرنا عن حقيقة أمرهما وانت في أمان على نفسك وعليهما، قال الجواهرجي: فلما سمعت هذا الكلام.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواهرجي قال: لما سمعت هذا الكلام كدت أهلك من الخوف والفزع وقلت لهم: اعلموا أن المرأة إذا ضاعت لا توجد إلا عندكم وإذا كان عندي سر أخاف إفشاءه فلا يخفيه إلا صدوركم، وصرت أبالغ في هذا المعنى، ثم إني وجدت المبادرة لهم باحديث أنفع من كتمانه بجميع ما وقع لي حتى انتهيت آخر الحديث، فلما سمعوا حكايتي قالوا: وهل هذا الفتى علي بن بكار وهذه شمس النهار؟ فقلت لهم: نعم، فذهبوا إليهما واعتذروا لهما ثم قالوا: إن الذي أخذناه من دارك ذهب بعضه وهذا ما بقي منه، ثم ردوا إلي أكثر الأمتعة والتزموا أنهم يعيدوها إلى محلها في داري ويردون إلي الباقي ولكن اقسموا نصفين فصار قسم منهم معيثم خرجبا من تلف الدار، هذا ما كان من أمري.
و أما ما كان من أمر علي بن بكار وشمس النهار فإنهما قد أشرفا على الهلاك من الخوف، ثم تقدمت إلى علي بن بكار وشمس النهار وسلمت عليهما وقلت لهما: يا ترى ما جرى للجارية والوصيفتين وأين ذهبتا؟ فقالا: لا علم لنا بهن ولم نزل سائرين إلى أن انتهينا إلى المكان الذي فيه الزورق فأطلعونا فيه وإذا هو الزورق الذي عدينا بالأمس فقذف بنا الملاح حتى أوصلنا إلى البر الثاني فانزلونا فم استقر بنا الجلوس على جانب البر حتى جاءت خيالة واحاطوا بنا من كل جانب فوثب الذين معنا عاجلاً كالعقبان فرجع لهم الزورق فنزلوا فيه وسار بهم في البحر وبقيت أنا وعلي بن بكار وشمس النهار على شاطيء البحر لا نستطيع حركة ولا سكوناً فقال لنا الخيالة: من أين انتم؟ فتحيرنا في الجواب.
قال الجواهرجي: فقلت لهم: إن الذين رأيتموهم لا نعرفهم وإنما رأيناهم هنا وأما نحن فمغنون فأرادوا أخذنا لنغني لهم فما تخلينا منهم إلا بالحيلة ولين الكلام فأفرجوا عنا في هذه الساعة وقد كان منهم ما رأيتم من أمرهم فنظر الخيالة إلى شمس النهار وإلى علي بن بكار ثم قالوا لي: لست صادقاً فأخبرنا من أنتم ومن أين أتيتم وما موضعكم وفي أي الحارات انتم ساكنون؟ قال الجواهرجي: فلم أدر ما أقول، فوثبت شمس النهار وتقدم إلى مقدم الخيالة وتحدثت معه سراً فنزل من فوق جواده واركبها عليه وأخذ بزمامها وصار يقودها وكذلك فعل بعلي بن بكار وبي أيضاً. ثم إن مقدم الخيالة لم يزل سائراً بنا إلى موضع على جانب البحر وصاح بالرطانة فأقبل له جماعة من البرية فأطلعنا المقدم في زورق وأطلع أصحابه في زورق آخر فقذفوا بنا إلى أن انتهينا إلى دار الخلافة ونحن نكابد الموت من شدة الخوف فدخلت شمس النهار وأما نحن فرجعنا ولم نزل سائرين إلى أن انتهينا إلى المحل الذي نتوصل منه إلى موضعنا فنزلنا على البر ومشينا ومعنا جماعة من خيالة يؤانسوننا إلى أن دخلنا الدار، وحين دخلناها ودعنا من كان معنا من الخيالة ومضوا في حال سبيلهم، وأما نحن فقد دخلنا مكاننا ونحن لا نقدر أن نتحرك من مكاننا ولا ندري الصباح من المساء، ولم نزل على هذه الحالة إلى أن أصبح الصباح.
فلما جاء آخر النهار سقط علي بن بكار مغشياً عليه وبكت عليه النساء والرجال وهو مطروح لم يتحرك فجاءني بعض أهله وقالوا: حدثنا بما جرى لولدنا وأخبرنا بسبب الحال الذي هو فيه؟ فقلت: يا قوم اسمعوا كلامي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواهرجي قال: لا تفعلوا به مكروهاً واصبروا وهو يفيق ويخبركم بقصته بنفسه، ثم شددت عليهم وخوفتهم من الفضيحة بيني وبينهم، فبينما نحن كذلك وإذا بعلي بن بكار تحرك من فراشه ففرح أهله وانصرف الناس عنه ومنعني أهله من الخروج من عنده ثم رشوا ماء الورد على وجهه، فلما أفاق وشم الهواء صاروا يسألونه عن حاله فصار يخبرهم ولسانه لا يرد جواباً بسرعة، ثم أشار إليهم أن يطلقوني لأذهب إلى منزلي فأطلقوني فخرجت، فلما أردت المسير رأيت امرأة واقفة فتأملتها وإذا هي جارية شمس النهار فلما عرفتها سرت وهرولت في سيري فتبعتني فداخلني منها الفزع وصرت كلما أنظرها يأخذني الرعب منها وهي تقول لي: قف حتى أحدثك بشيء وأنا لم ألتفت إليها ولم أزل سائراً إلى مسجد في موضع خال من الناس فقالت لي: ادخل المسجد لأقول لك كلمة ولا تخف من شيء، فدخلت المسجد ودخلت خلفي فصليت ركعتين ثم تقدمت إليها وأنا أتأوه وقلت لها: ما بالك؟ فسألتني عن حالي فحدثتها بما وقع لي وأخبرتها بما جرى لعلي بن بكار وقلت لها: ما خبرك؟ فقالت: اعلم أني لما رأيت الرجال كسروا باب دارك ودخلوا خفت منهم وخشيت أن يكونوا من عند الخليفة فيأخذوني أنا وسيدتي فنهلك من وقتنا فهربت من السطوح أنا والوصيفتان ورمينا أنفسنا من مكان عال ودخلنا على قوم فهربنا عندهم حتى وصلنا إلى قصر الخلافة ونحن على أقبح صفة ثم أخفينا أمرنا وصرنا نتقلب على الجمر إلى أن جن الليل ففتحت باب البحر واستدععيت الملاح الذي أخرجنا تلك الليلة وقلت له: إن سيدتي لم نعلم لها خبراً احملني في الزورق حتى أفتش عليها في البحر لعلي أقع على خبرها فحملني في الزورق وسار بي ولم أزل سائرة في البحر حتى انتصف الليل فرأيت زورقاً أقبل لإلى جهة الباب وفيه رجلاً يقذف ومعه رجل آخر وامرأة مظروحة بينهما وما زال يقذف حتى وصل إلى البر فلما نزلت المرأة تأملتها فإذا هي شمس النهار فنزلت إليها وقد اندهشت من الفرحة لما رأيتها بعدما قطعت الرجاء منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت للجواهرجي فنزلت إليهما وقد اندهشت من الفرح فلما تقدمت بين يديها أمرتني أن أدفع إلى الرجل الذي جاء بها ألف دينار، ثم حملتها أنا والوصيفتان إلى أن ألقيناها على فراشها فأقامت تلك الليلة على حالة مكدرة، فلما أصبح الصباح منعت الجواري والخدم من الدخول عليها والوصول إليها ذلك اليوم وفي ثاني يوم أفاقت مما كان بها، فوجدتها كأنها خرجت من مقبرة فرئت على وجهها ماء الورد وغيرت ثيابها وغسلت يديها ورجليها ولم أزل ألاطفها حتى أطعمتها شيئاً من الطعام وأسقيتها شيئاً من الأشربة وهي ليس لها قابلية في شيء من ذلك فلما شمت الهواء وتوجهت إليها العافية قلت لها: يا سيدتي أرفقي بنفسك فقد حصل لك من المشقة ما فيه الكفاية فإنك قد أشرفت على الهلاك فقالت: والله يا جارية الخير إن الموت عندي اهون مما جرى لي فإني كنت مقتولة لا محالة لأن اللصوص لما خرجوا بنا من دار الجواهرجي سألوني وقالوا: من أنت وما شأنك؟ فقلت: أنا جارية من المغنيات فصدقوني ثم سألوا علي بن بكار عن نفسه وقالوا: من أنت وما شأنك؟ فقال: أنا من عوام الناس فأخذونا وسرنا معهم إلى أنانتهوا بنا إلى موضعهم، ونحن نسرع في السير معهم من شدة الخوف.
فلما استقروا بنا في أماكنهم تأملوني ونظروا ما علي من الملبوس والعقود والجواهر فأنكروا أمري وقالوا: إن هذه العقود لا تكن لواحدة من المغنيات ثم قالوا: صدقينا وقولي لنا الحق وما قضيتك؟ فلم أرد عليهم جواباً بشيء وقلت في نفسي: الآن يقتلونني لأجل ما علي من الحلي والحلل فلم أنطق بكلمة ثم التفتوا إلى علي بن بكار وقالوا له: من أين أنت فإن رؤيتك غير رؤية العوام، فسكت وصرنا نكتم أمرنا ونبكي فحنن الله علينا قلوب اللصوص. فقالوا لنا: من صاحب الدار التي كنتما فيها؟ فقلنا لهم: صاحبها فلان الجواهرجي فقال واحد منهم: أنا أعرفه حق المعرفة وأعرف أنه ساكن في داره الثانية وعلي أن آتيكم به في هذه الساعة، واتفقوا على أن يجعلني في موضع وحدي وعلي بن بكار في موضع وحده وقالوا لنا: استريحا ولا تخافا أن ينكشف خبركما وأنتما في أمان منا ثم إن صاحبهما مضى إلى الجواهرجي وأتى به وكشف أمرنا لهم وأجمعنا عليه، ثم إن رجلاً منهم أحضر لنا زورقاً وأطلعونا فيه وعدوا بنا إلى الجانب الثاني ورمونا إلى البر وذهبوا فأتت خيالة من أصحاب العسس وقالوا: من تكونون؟ فتكلمت مع مقدم العسس وقلت له: أنا شمس النهار محظية الخليفة وقد سكرت وخرجت لبعض معارفي من نساء الوزراء فجاءني اللصوص وأخذوني وأوصلوني إلى هذا المكان، فما رأوكم فروا هاربين وأنا قادرة على مكفأتك.
فلما سمع كلامي مقدم الخيالة عرفني ونزل عن مركوبه وأركبني وفعل كذلك مع علي بن بكار والجواهرجي وفي كبدي الآن من أجلهما لهيب النار لا سيما الجواهرجي رفيق اب بكار فامض إليه وسلمي عليه واستفسري عن علي بن بكار فلمتها على ما وقع منها وحذرتها وقلت لها: يا سيدتي خافي على نفسك فصاحت علي وغضبت من كلامي. ثم قمت من عندها وجئت فلم أجدك وخشيت من الرواح إلى ابن بكار فصرت واقفة أترقبك حتى أسألك عنه وأعلم ما هو فيه فأسألك من فضلك أن تاخذ مني شيئاً من المال فإنك ربما استعرت أمتعة من أصحابك وضاعت عليك فتحتاج أن تعوض على الناس ما ذهب لهم من الأمتعة، قال الجواهرجي فقلت: سمعاً وطاعة ثم مشيت معها إلى أنأتينا إلى قرب محلي فقالت لي: قف هنا حتى أعود إليك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية مضت ثم عادت وهي حاملة المال فأعطته للجواهرجي وقالت له: يا سيدي أنجتمع بك في أي محل؟ قال الجواهرجي، فقلت لها: أتوجه إلى داري في هذه الساعة وأتحمل الصعوبة لأجل خاطرك واتدبر فيما يوصلك إليه فإنه يتعذر إليه في مثل هذا الوقت ثم ودعتني ومضت فحملت المال وأتيت به إلى منزلي وعددت المال فوجدته خمسة آلف دينار فأعطيت أهلي منه شيئاً ومن كان له عندي شيء أعطيته عوضاً منه، ثم إني أخذت غلماني وذهبت إلى الدار التي ضاعت منها الأمتعة وجئت بالنجارين والبنائين فأعادوها إلى ما كانت عليه، وجعلت جاريتي فيها ونسيت ما جرى لي ثم تمشيت إلى دار علي بن بكار، فلما وصلت إليها أقبل غلمانه علي وقال لي واحد منهم: إن غلمان سيدي في طلبك ليلاً ونهاراً وقد وعدهم أن كل من أتاه بك يعتقه فهم يفتشون عليك ولم يعرفوا لك موضعاً وقد رجعت إلى سيدي عافيته وهو تارة يفيق وتارة يستغرق، فلما يفيق يذكرك ويقول: لا بد أن تحضروه لحظة لي ويعود إلى حال سبيله قال الجواهرجي: فمضيت مع الغلام إلى سيده فوجدته لا يستطيع الكلام فلما رأيته جلست عند رأسه ففتح عينيه فلما رأني قال: اعلم أن لكل شيء نهاية، ونهاية الهوى الموت أو الوصال وأنا إلى الموت أقرب فيا ليتني مت من قبل الذي جرى ولولا أن الله لطف بنا لافتضحنا ولا أدري ما الذي يوصلني إلى الخلاص مما أنا فيه ولولا خوفي من الله تعالى لعجلت على نفسي بالهلاك واعلم يا أخي أنني كالطير في القفص وإن نفسي هالكة من الغصص ولكن لها وقت معلوم وأجل محتوم ثم أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
                    شكا ألم الفراق الناس قبلـي        وروع بالنوى حي ومـيت
                  واما مثل ما ضمت ضلوعي       فإني ما سمعـت ولا رأيت
فلما فرغ من شعره قال له الجواهرجي: يا سيدي اعلم أني عزمت على الذهاب إلى داري فلعل الجارية ترجع إلي بخبر، فقال علي بن بكار: لا بأس بذلك ولكن أسرع بالعودة عندنا لأجل أن تخبرني. قال الجواهرجي فودعته وانصرفت إلى داري فلم يستقر بي الجلوس حتى رأيت الجارية أقبلت وهي في بكاء ونحيب فقلت لها: ما سبب ذلك؟ فقالت يا سيدي اعلم أنه حل بنا ما حل من أمر نخافه فإني مضيت من عندك بالأمس، وجدت سيدتي مغتاظة على وصيفة من الوصيفتين اللتين كانتا معنا تلك الليلة وامرت بضربها فخافت من سيدتها وهربت فلاقاها بعض الموكلين بالباب، وأراد ردها إلى سيدتها فلوحت له بالكلام فلاطفها واستنطقها عن حالهافإخبرته بما كنا فيه فبلغ الخبر إلى الخليفة فأمر بنقل سيدتي شمس النهار وجميع ما لها إلى درجة الخلافة ووكل بها عشرين خادماً ولم أجتمع بها إلى الآن ولم أعلمها بالسبب وتوهمت أن بسبب ذلك فخشيت على نفسي واحترت يا سيدي ولم أدر كيف أحتال في أمري وأمرها ولم يكن عندها حفظ لكتمان السر مني، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت للجواهرجي: توجه يا سيدي إلى علي بن بكار سريعاً وأخبره بذلك لأجل أن يكون على أهبة فإذا انكشف الأمر نتدبر في شيء نفعله لنجاة أنفسنا. فأخذني من ذلك هم عظيم وصار الكون في وجهي ظلاماً كمن كلام الجارية وهمت الجارية بالإنصراف فقلت لها: وما الرأي؟ فقالت لي: الرأي أن تبادر إلى علي بن بكار إن كان صديقك وتريد له النجاة وانت عليك تبليغ هذا الخبر بسرعة وأنا علي أن أتقيد باستنشاق الأخبار ثم ودعتني وخرجت. فلما خرجت الجارية قمت وخرجت في أثرها وتوجهت إلى علي بن بكار فوجدته يحدث نفسه بالوصل ويعللها بالمجال فلما رآني رجعت إليه عاجلاً قال: إني أراك رجعت إلي في الحال قلت له: أقصر من التعلق البطال ودع ما أنت فيه من الإشتعال فقد حدث حادث يقضي إلى تلف نفسك ومالك فلما سمع هذا الكلام تغير حاله وانزعج وقال للجواهرجي: يا أخي أخبرني بما وقع؟ فقال له الجواهرجي: يا سيدي اعلم أنه قد جرى ما هو كذا وكذا وانك إن أقمت في دارك هذه إلى آخر النهار فأنت تالف لا محالة، فبهت علي بن بكار وكادت روحه أن تفارق جسده، ثم استرجع بعد ذلك وقال له: ماذا نفعل يا أخي وما عندك من الرأي؟  قال الجواهرجي، فقلت له: الرأي أن تأخذ معك من مالك ما تقدر عليه ومن غلمانك ما تثق به وان تمضي بنا إلى ديار هذه قبل أن ينقضي هذا النهار فقال سمعاً وطاعة، ثم وثب وهو متحير في أمره فتارة يمشي وتارة يقع وأخذ ما قدر عليه واعتذر إلى أهله وأوصاهم بمقصوده وأخذ معه ثلاثة جمال محملة وركب دابة وقد فعلت أنا كما فعل، ثم خرجنا خفية وسرنا ولم نزل سائرين باقي يومنا وليلتنا فلما كان آخر النهار حططنا حمولنا وعقلنا وجمالنا ونمنا فحل علينا التعب وغفلنا عن انفسنا وإذا باللصوص أحاطوا بنا وأخذوا جميع ما كان معنا وقتلوا الغلمان ثم تركونا بأماكننا ونحن في أقبح حال بعد أن أخذوا المال وساروا، فلما قمنا مشينا إلى أنأصبح الصباح فوصلنا إلى بلد فدخلناها وقصدنا مسجده ونحن عرايا وجلسنا في جنب المسجد باقي يومنا فلما جاء الليل بتنا في المسجد تلك الليلة ونحن من غير أكل ولا شرب فلما أصبح الصباح وجلسنا وإذا برجل داخل فسلم علينا وصلى ركعتين. ثم التفت لإلينا وقال: يا جماعة هل انتم غرباء؟ قلنا: نعم وقطع اللصوصعلينا الطريق وغزونا ودخلنا هذه البلدة ولا نعرف فيها أحداً نأوي عنده، فقال لنا الرجل هل لكم أن تقوموا معي إلى دياري؟ قال الجواهرجي فقلت لعلي بن بكار: قم بنا معه فننجو من أمرين: الأول اننا نخشى أن يدخل علينا احد يعرفنا في هذا المسجد فنفتضح، والثاني أننا أناس غرباء وليس لنا مكان نأوي إليه.
فقال علي بن بكار: افعل ما تريد ثم إن الرجل قال لنا ثاني مرة: يا فقراء أطيعوني وسيروا معي إلى مكاني قال الجواهرجي فقلت له: سمعاً وطاعة، ثم إن الرجل خلع لنا شيئاً من ثيابه وألبسنا ولاطفنا فقمنا معه إلى داره فطرق الباب فخرج إلينا خادم صغير وفتح الباب، فدخل الرجل صاحب المنزل ودخلنا خلفه ثم إن الرجل أمر بإحضار بقجة فيها أثواب وشاشات فألبسنا حلتين وأعطانا وأعطانا شاشين فتعممنا وجلسنا وإذا بجارية أقبلت لإلينا بمائدة ووضعتها بين أيدينا فاكلنا وشربنا شيئاً يسيراً ورفعت المائدة ثم أقمنا عنده إلى أن حل الليل. فتأوه علي بن بكار وقال للجواهرجي: يا أخي اعلم انني هالك لا محالة وأريد أن اوصيك وصية وهو انك إذا رأيتني مت تذهب إلى هذا المكان لأجل أن تأخذ عزابي، وتحضر غسلي وأوصيها أنتكون صابرة على فراقي ثم وقع مغشياً عليه فلما أفاق سمع جارية تغني من بعيد وتنشد الأشعار فصار يصغي إليها ويسمع صوتها وهو تارة يضحك وتارة يبكي شجناً وحزناً مما أصابه فسمع الجارية تطرب بالنغمات وتنشد هذه الأبيات:
                 عجل البين بيننـا بـالـفـراق            بعد ألف وجـيرة واتـفـاق
                فرقت بيننا صروف اللـيالـي           ليت شعري متى يكون التلاقي
                ما أمر الفراق بعد اجتـمـاع            ليته ما أضر بـالـعـشـاق
                غصة الموت ساعة ثم تنقضي         وفراق الحبيب في القلب باق
                لو وجدنا إلى الفراق سـبـيلاً            لأذقنا الفراق طعم الـفـراق
فلما سمع ابن بكار إنشاد الجارية شهق شهقة ففارقت روحه جسده، قال الجواهرجي: فلما رأيته مات أوصيت عليه الدار وقلت له: اعلم أنني متوجه إلى بغداد لأخبر والدته وأقاربه حتى يأتوا ليجهزوه ثم إني توجهت إلى بغداد ودخلت داري وغيرت ثيابي وبعد ذلك ذهبت إلى دار علي بن بكار فلما رآني غلمانه أتوا إلي وسألوني عنه وسألتهم أن يستأذنوا لي والدته في الدخول عليها فأذنت لي بالدخول وسلمت عليها وقلت: إن الله إذا قضى أمراً لا مفر من قضائه وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً فتوهمت أم علي بن بكار من هذا الكلام أن ابنها قد مات فبكت بكاءً شديداً، ثم قالت: بالله عليك أن تخبرني هل توفي ولدي؟ فلم أقدر أن أرد عليها جواباً من كثرة الجزع، فلما رأتني على تلك الحالة انخنقت بالبكاء ثم وقعت على الأرض مغشياً عليها فلما أفاقت من غشيتها قالت: ما كان من أمر ولدي؟ فقلت لها: عظم الله أجرك فيه ثم إني حدثتها بما كان من أمره من المبتدأ إلى المنتهى قالت: أوصاك بشيء؟ فقلت لها: نعم وأخبرتها بما أوصاني به وقلت لها: أسرعي في تجهيزه فلما سمعت أم علي بن بكار كلامي سقطت مغشياً عليها فلما أفاقت عزمت على ما أوصيتها به ثم إني رجعت إلى داري وسرت في الطريق أتفكر في حسن شبابه فبينما أنا كذلك وإذا بامرأة قبضت على يدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة المائتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواهرجي قال: وإذا بامرأة قد قبضت على يدي فتأملتها فرأيتها الجارية التي كانت تمشي من عند شمس النهار وقد علاها الإنكسار فلما تعارفنا بكينا جميعاً وسرنا حتى أتينا إلى تلك الدار فقلت لها: هل علمت بخبر علي بن بكار؟ فقالت: لا والله، فأخبرتها بخبره وما كان من أمره ثم إني قلت لها: كيف حال سيدتك؟ فقالت: لم يقبل فيها أمير المؤمنين قول أحد لشدة محبته لها وقد حمل جميع أمورها على المحامل الحسنة وقال لها: يا شمس النهار أنت عندي عزيزة وانا اتحملك على رغم أعدائك ثم أمر لها بفرش مقصورة مذهبة وحجرة مليحة وصارت عنده من ذلك في قبول عظيم، فاتفق أنه جلس يوماً من الأيام على جري عادته للشراب، وحضرت المحاذي بين يديه فأجلسهن في مراتبهن وأجلسه بجابنه وقد عدمت صبرها وزاد أمرها فعند ذلك أمر جارية من الجواري أن تغني فأخذت العود وضربت به وجعلت تقول:
              وداع دعاني للهـوى فـأجـبـتـه             ودمعي بحط الوجد حطا على خدي
             كأن دموع العين تخبـر حـالـنـا             فتبدي الذي أخفى وتخفي الذي أبدي
             فكيف أروم السر او أكتم الـهـوى           وفرط غرامي فيك يظهر ما عندي
             وقد طاب موتي عند فقد أحبـتـي            فيا ليت شعري ما يطيب لهم بعدي
فلما سمعت شمس النهار إنشاد الجارية لم تستطع الجلوس ثم سقطت مغشياً عليها فرمى الخليفة القدح وجذبها عنده وصاح وصاحت الجواري وقلبها أمير المؤمنين فوجدها ميتة فحزن أمير المؤمنين لموتها وأمر أن يكسر جميع ما كان في الحضرة من الآلات والقوانين وحملها في حجرة بعد موتها ومكث عندها باقي ليلته فلما طلع النهار جهزها وأمر بغسلها ودفنها وحزن عليها حزناً كثيراً ولم يسأل عن حالها ولا عن الأمر الذي كانت فيه ثم قالت الجارية للجواهرجي: سألتك بالله أن تعلمني بوقت خروج جنازة علي بن بكار وأن تحضرني دفنه، فقال لها: أما أنا ففي أي محل شئت تجدني وأما أنت فمن يستطيع الوصول إليك في المحل الذي أنت فيه. فقالت له: إن أمير المؤمنين لما ماتت شمس النهار أعتق جواريها من يوم مماتها وأنا من جملتهن ونحن مقيمات على تربتها في المحل الفلاني فقمت معها وأتيت المقبرة وزرت شمس النهار ثم مضيت إلى حالي ولم أزل أنتظر جنازة علي بن بكار إلى أن جاءت فخرجت له أهل بغداد وخرجت معه فوجدت الجارية بين النساء وهي أشدهن حزناً ولم أر جنازة أعظم من هذه الجنازة وما زلنا في ازدحام عظيم إلى أن أتينا إلى قبره ودفناه وصرت لا أنقطع عن زيارته ولا عن زيارة شمس النهار. هذا ما كان من حديثهما وليس بأعجب من حديث الملك شهرمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
PropellerAds
dmwduuzy0jqo8ndzx.html