حكاية علي بن البكار مع شمس النهار
وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان في خلافة هارون الرشيد رجل تاجر له ولد يسمى أبا الحسن علي بن طاهر وكان كثير المال والنوال حسن الصورة محبوباً عند كل من يراه وكان يدخل دار الخلافة من غير غذن ويحبه جميع سراري الخليفة وجواريه وكان ينادمه وينشد عنده الأشعار ويحدثه بنوادر الأخبار إلا أنه كان يبيع ويشتري في سوق التجار وكان يجلس على دكان شاب من أولاد ملوك العجم يقال له: علي بن بكار وكان ذلك الشاب مليح القامة ظريف الشكل كامل الصورة مورد الخدين مقرون الحاجبين عذب الكلام ضاحك السن يحب البسط والإنشراح فاتفق لهما كانا جالسين يتحدثان ويضحكان وإذا بعشر جوار كأنهن الأقمار وكل منهن ذات حسن وجمال وقد واعتدال وبينهن صبية راكبة على بغلة بسرج مزركش، له ركاب من الذهب كما قال فيها الشاعر:
لها بشر مثل الحرير ومنـطـق رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فـكـانـتـا فعولان بالألباب ماتفعل الخمـر
فيا حبها زدني جوى كـل لـيلة ويا سلوة الحباب موعدك الحشر
فلما وصلوا إلى دكان أبي الحسن نزلت عن البغلة وجلست على دكانه فسلمت عليه وسلم عليها فلما رآها علي بن كار سلبت عقله وأراد القيام فقالت له: اجلس مكانك كيف تذهب إذا حضرنا هذا ما هو انصاف؟ فقال: والله يا سيدتي إني هارب مما رأيت وما أحسن قول الشاعر:
هي الشمس مسكنها في السماء فعز الفؤاد عـزاء جـمـيلا
فلن تستطيع إليهـا صـعـوداً ولن تستطـيع إلـيك نـزولا
فلما سمعت ذلك الكلام تبسمت وقالت لأبي الحسن: ما اسم هذا الفتى ومن أين هو؟ فقال لها: هذا غريب اسمه علي بن بكار بن ملك العجم والغريب يجب إكرامه فقالت له: إذا جاءتك جاريتي فارسله لعندي فقال أبو الحسن: على الرأس ثم قامت وتوجهت إلى حال سبيلها. هذا ما كان من أمرها.
وأما ما كان من أمر علي بن بكار فإنه صار لا يعرف ما يقول وبعد ساعة جاءت الجارية إلى أبي الحسن وقالت: إن سيدتي تطلبك أنت ورفيقك فنهض أبو الحسن وأخذ معه علي بن بكار وتوجها إلى دار هارون الرشيد فأدخلتهما في مقصورة وأجلستهما وإذا بالموائد وضعت قدامهما فأكلا وغسلا أيديهما، ثم أحضرت لهما الشراب فشربا، ثم أمرتهما بالقيام فقاما معها وأدخلتهما مقصورة أخرى مركبة على أربعة أعمدة وهي مفروشة بأنواع الفرش مزينة بأحسن الزينة، كأنها من قصور الجنان اندهشا مما عاينا من التحف. فبينما هما يتفرجان على هذه الغرائب وإذا بعشر جوار أقبلن وبينهن جارية اسمها شمس النهار كأنها القمر بين النجوم وهي متوحشة تفاضل شعرها وعليها لباس أزرق أزرار من الحرير بطراز من الذهب وفي وسطها حياصة مرصعة بأنواع الجواهر ولم تزل تتبختر حتى جلست على السرير فلما رآها علي بن بكار أنشد هذه الأشعار:
إن هذي هي ابتداء سقـامـي وتمادي وجدي وطول غرامي
عندها قد رأيت نفسـي ذابـت من ولوعي بها وبري عظامي
فلما فرغ من شعره قال لأبي الحسن لو عملت معي خيراً كنت أخبرتني بهذه الأمور قبل الدخول هنا لأجل أن أوطن نفسي وأصبرها على ما أصابها ثم بكى وأن واشتكى فقال له أبو الحسن: يا أخي أنا ما أردت لك إلا الخير ولكن خشيت أن أعلمك بذلك فيلحقك من الوجد ما يصدك عن لقائها ويحيل بينك وبين وصالها فطب نفساً وقر عيناً فهي بسعدك مقبلة وللقائك متوصلة، فقال علي بن بكار: ما اسم هذه الصبية؟ فقال أبو الحسن: تسمى شمس النهار وهي من محاظي أمير المؤمنين هارون الرشيد وهذا المكان قصر الخلافة ثم إن شمس النهار جلست وتأملت محاسن علي بن بكار وتأمل هو حسنها واشتغلا بحب بعضهما وقد أمرت الجواري أن تجلس كل واحدة منهن في مكانها على سرير، فجلست كل واحدة قبال طاقة وأمرتهن بالغناء فتسلمت واحدة منهن العود وأنشدت تقول:
أعد الرسالة ثـانـية وخذ الجواب علانية
وإليك يا ملك الملاح وقفت أشكو حالـيه
مولاي يا قلبي العزيز ويا حياتي الغـالـية
أنعم علي بـقـبـلة هبة وإلا عــارية
وأردها لك لا عدمت بعينها وكمـا هـي
وإذا أردت زيادة خذها ونفسي راضية
يا ملبسي ثوب الرض ا يهنيك ثوب العافـية
فطرب علي بن بكار وقال: زيديني من مثل هذا الشعر، فحركت الأوتار وأنشدت هذه الأشعار:
من كثرة البعد يا حبيبـي علمت طول البكا جفوني
يا حظ عيني ومـنـاهـا ومنتهى غايتـي ودينـي
ارث لمن طرفه غـريق في عبرة الواله الحزين
فلما فرغت من شعرها قالت شمس النهار لجارية غيرها: أنشدي فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
سكرت من لحظه لا من مدامته ومال بالنوم عن عيني تمايلـه
فما السلاف سلتني بل سوالفـه والشمول شلتني بل شمـائلـه
لوى بعزمي أصداغاً لوين لـه وغالى عقلي بما تهوى غلائله
فلما سمعت شمس النهار إنشاد الجاري تنهدت وأعجبها الشعر ثم أمرت جارية أخرى أن تغني فأنشدت هذه الأبيات:
وجه لمصباح السماء مباهـي يبدو الشباب عليه رشح مـياه
رقم العدار غلاليته بـأحـرف معنى الهوى في طيبها متناهي
نادى عليه الحسن حين لقـيتـه هذا المنمنم في طراز الـلـه
فلما فرغت من شعرها قال علي بن بكار لجارية قريب منه، أنشدي أنت أيتها الجارية فأخذت العود وأنشدت هذه الأبيات:
زمن الوصل يضيق عن هذا التمادي والـدلال
كم من صدود متـلـف ما هكذا أهل الجمـال
فاستغنموا وقت السعود بطيب ساعات الوصال
فلما فرغت من شعرها تنهد علي بن بكار وأرسل دموعه الغزار، فلما رأته شمس النهار قد بكى وأن واشتكى أحرقها الوجد والغرام وأتلفها الوله والهيام فقامت من فوق السرير وجاءت إلى باب القبة فقام علي بن بكار وتلقاها ووقعا مغشياً عليهما في باب القبة فقمن الجواري إليهما وحملنهما وأدخلنهما القبة ورششن عليهما ماء الورد فلما أفاقا لم يجدا أبا الحسن وكان قد اختفى في جانب سرير فقالت الصبية: أين أبو الحسن فنظر لها من جانب السرير فسلمت عليه وقالت له: أسأل الله أن يقدرني على مكافأتك يا صاحب المعروف، ثم أقبلت على علي بن بكار وقالت له: يا سيدي ما بلغ بك الهوى إلى غاية إلا وعندي أمثالها وليس لنا إلا الصبر على ما أصابنا، فقال علي بن بكار: والله يا سيدتي ليس جمع المال شملي بك يطيب وو لا ينطفئ إليك ما عندي من اللهيب ولا يذهب ما تمكن من حبك في قلبي إلا بذهاب روحي، ثم بكى فنزلت دموعه على خده كأنها المطر، فلما رأته شمس النهار يبكي بكت لبكائه فقال أبو الحسن: والله إني عجبت من أمركما واحترت من شأنكما فإن حالكما عجيب وأمركما غريب في هذا البكاء وأنتما مجتمعان فكيف يكون الحال بعد انفصالكما؟ ثم قال: هذا ليس وقت حزن وبكاء بل هذا وقت سرور وفرح.
فأشارت شمس النهار إلى جارية فقامت وعادت ومعها وصائف حاملات مائدة صحافها من الفضة وفيها أنواع الطعام، ثم وضعت المائدة قدامها وصارت شمس النهار تأكل وتلقم علي بن بكار حتى اكتفوا، ثم رفعت المائدة وغسلوا أيديهم وجاءتهم المباخر بأنواع العود وجاءت القماقم بماء الورد فتبخروا وتطيبوا وقدمت لهم أطباق من الذهب المنقوش فيها من أنواع الشراب والفواكه والنقل وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم جاءت لهم بطشت من العقيق ملآن من المدام، فاختارت شمس النهار عشر وصائف أوقفتهن عندها وعشر جوار من المغنيات وصرفت باقي الجواري إلى أماكنهن وامرت بعض الحاضرات من الجواري أن يضربن العود ففعلن ما أمرت به، وأنشدت واحدة منهن:
بنفسي من رد التحـية ضـاحـكـاً فجدد بعد اليأس في الوصل مطعمي
لقد أبرزت سر الغـرام سـرائري وأظهرت للعذال ما بين أضلـعـي
وحالت دموع العين بينـي وبـينـه كأن دموع العين تعشقـه مـعـي
فلما فرغت من شعرها قامت شمس النهار وملأت الكأس وشربته ثم ملأته وأعطته لعلي بن بكار.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شمس النهار ملأت الكأس لعلي بن بكار، ثم أمرت جارية أن تغني فأنشدت هذين البيتين:
تشابه دمعي إذ جرى ومدامـتـي فمن مثل الكأس عيني تسـكـب
فوالله لا أدري أبالخمر أسلـبـت جفوني أم من أدمعي كنت أشرب
فلما فرغت من شعرها شرب علي بن بكار كأسه ورده إلى شمس النهار فملأته وناولته لأبي الحسن فشربه: ثم أخذت العود وقالت: لا يغني على قدحي غيري، ثم شدت الأوتار وأنشدت هذه الأشعار:
غرائب الدمع في خديه تضطرب وجداً ونار الهوى في صدره تتقد
يبكي من القرب خوفاً من تباعدهم فالدمع إن قربوا جار وإن بعدوا
فلما سمع علي بن بكار وأبو الحسن والحاضرون شعر شمس النهار كادوا يطيروا من الطرب ولعبوا وضحكوا، فبينما هم على هذا الحال إذا بجارية أقبلت وهي ترتعد من الخوف وقالت: يا سيدتي وصل أمير المؤمنين وهاهو بالباب ومعه عفيف ومسرور وغيرهما، فلما سمعوا كلام الجارية كادوا أن يهلكوا من الخوف فضحكت شمس النهار وقالت: لا تخافوا، ثم قالت للجارية: ردي عليهم الجواب بقدر ما نتحول من هذا المكان، ثم إنها أمرت بغلق باب القبة ثم خرجت إلى البستان وجلست على سريرها وأمرت جارية أن تكبس رجليها وأمرت بقية الجواري أن يمضين إلى أماكنهن وأمرت الجارية أن تدع الباب مفتوحاً ليدخل الخليفة فدخل مسرور ومن معه وكانوا عشرون وبأيديهم السيوف فسلموا على شمس النهار، فقالت لهم: لأي شيء جئتم؟ فقالوا: إن أمير المؤمنين يسلم عليك وقد استوحش لرؤيتك ويخبرك أنه كان عنده اليوم سرور وحظ زائد وأحب أن يكون ختام السرور بوجودك في هذه الساعة، فهل تأتين عنده أو يأتي عندك؟ فقامت وقبلت الأرض وقالت سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ثم أمرت بإحضار القهرمانات والجواري فحضرن وأظهرت لهن انها مقبلة على ما أمر به الخليفة وكان المكان كاملاً في جميع أموره ثم قالت للخدم: امضوا إلى أمير المؤمنين واخبروه أنني في انتظاره بعد قليل إلى أنأهيئ له مكاناً بالفرش والأمتعة فمضى الخدم مسرعين إلى أمير المؤمنين.
ثم إن شمس النهار قلعت ودخلت إلى معشوقها علي بن بكار وضمته إلى صدرها وودعته فبكى بكاءً شديداً وقال: يا سيدتي هذا الوداع فمتعيني به لعله يكون على تلف نفسي وهلاك روحي في هواك ولكن أسأل الله أن يرزقني الصبر على ما بلاني به من محبتي، فقالت له شمس النهار: والله ما يصير في التلف إلا أنا فإنك قد تخرج إلى السوق وتجتمع بمن يسليك فتكون مصوناً وغرامك مكنوناً وأما أنا فسوف أقع في البلاء خصوصاً وقد وعدت الخليفة بميعاد فربما يلجقني من ذلك عظيم الخطر بسبب شوقي إليك وحبي لك وتعشقي فيك وتأسفي على مفارقتك، فبأي لسان أغني؟ وبأي قلب أحضر عند الخليفة؟ وبأي نظر أنظر إلى مكان ما أنت فيه؟ وكيف أكون في حضرة لم تكن بها؟ وبأي ذوق أشرب مداماً ما أنت حاضره؟ فقال لها أبو الحسن: لا تتحيري واصبري ولا تغفلي عن منادمة أمير المؤمنين هذه الليلة ولا تريه تهاوناً، فبينما هما في الكلام إذا بجارية قدمت وقالت: يا سيدتي جاء غلمان أمير المؤمنين فنهضت قائمة وقالت للجارية: خذي أبا الحسن ورفيقه واقصدي بهما أعلى الروشن المطل على البستان ودعيهما هناك إلى الظلام ثم تحيلي في خروجهما فأخذتهما وأطلعتهما في الروشن وأغلقت الباب عليهما ومضت إلى حال سبيلها وصارا ينظران إلى البستان، وإذا بالخليفة قدم وقدامه نحو المائة خادم بأيديهم السيوف وحواليه عشرون جارية كأنهن الأقمار عليهن أفخر ما يكون من الملبوس وعلى رأس كل واحدة تاج مكلل بالجواهر واليواقيت وفي يد كل واحدة شمعة موقودة والخليفة يمشي بينهن وهن محيطات به من كل ناحية ومسرور وعفيف ووصيف قدامه وهو يتمايل بينهم. فقامت شمس النهار وجميع من عندها من الجواري ولا قينه من البستان وقبلن الأرض بين يديه ولم يزلن سائرات أمامه إلى أن جلس على السرير والذين في البستان من الجواري والخدم وقفوا حوله والشموع موقودة والآلات تضرب إلى أن أمرهم بالإنصراف والجلوس على الأسرة فجلست شمس النهار على السرير بجانب سرير الخليفة وصارت تحدثه، كل ذلك وأبو الحسن وعلي بن بكار ينظران ويسمعان والخليفة لم يرهما.
ثم إن الخليفة صار يلعب مع شمس النهار، وأمر بفتح القبة ففتحت وشرعوا طيقانها وأوقدوا الشموع حتى صار المكان وقت الظلام كالنهار، ثم إن الخدم صاروا ينقلون آلت المشروب فقال أبو الحسن: إن هذه الآلات والمشروب والتحف ما رأيت مثله وهذا شيء من أصناف الجواهر ما سمعت بمثله وقد خيل لي في المنام وقد اندهش عقلي وخفق قلبي، وأما علي بن بكار فإنه لما فارقته شمس النهار لم يزل مطروحاً على الأرض من شدة العشق فلما أفاق صار ينظر إلى هذه الفعال التي لا يوجد مثلها فقال لأبي الحسن: يا أخي أخشى أن ينظرنا الخليفة أو يعلم حالنا وأكثر خوفي عليك وأما أنا فإني أعلم نفسي من الهالكين وما سبب موتي إلا العشق والغرام وفرط الوجد والهيام ونرجو من الله الخلاص مما بلينا. و لم يزل علي بن بكار وأبو الحسن ينظران من الروشين إلى الخليفة وما هو فيه حتى تكاملت الحضرة بين يدي الخليفة، ثم إن الخليفة التفت إلى جارية من الجواري وقال: هات ما عندك يا غرام من السماع المطرب فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
وما وجد إعرابية بان أهلهـا فحنت إلى بان الحجاز ورنده
إذا آنست ركباً تكفل شوقهـا بنار قراه والدمـوع بـورده
بأعظم من وجدي بحبي وغنما يرى أنني أذنبت ذنبـاً بـوده
فلما سمعت شمس النهار هذا الشعر وقعت مغشياً عليها من فوق الكرسي الذي كانت عليه وغابت عن الوجود فقام الجواري واحتملنها، فلما نظر علي بن بكار من الروشن وقع مغشياً عليه، فقال أبو الحسن: إن القضاء قسم الغرام بينكما بالتسوية، فبينما هما يتحدثان إذا بالجارية التي أطلعتها الروشن جاءتهما وقالت: يا أبا الحسن انهض أنت ورفيقك وانزلا فقد ضاقت علينا الدنيا وأنا خائفة أن يظهر أمرنا فقوما في هذه الساعة وإلا متنا. فقال أبو الحسن: فكيف ينهض معي هذا الغلام ولا قدرة له على النهوض؟ فصارت الجارية ترش ماء الورد على وجهه حتى أفاق فحمله أبو الحسن هو والجارية ونزلا به من الروشن ومشيا قليلاً، ثم فتحت الجارية بيدها فجاء زورق فيه إنسان يقذف فأطلعتهما الجارية في الزورق وقالت للذي في الزورق: أطلعهما في ذلك البر، فلما نزلا في الزورق وفارق البستان نظر علي بن بكار إلى القبة والبستان وودعهما بهذين البيتين:
مددت إلى التوديع كفـاً ضـعـيفة وأخرى على الرمضاء تحت فؤادي
فلا كان هذا آخر الـعـهـد بـين ولا كان هـذا الـزاد آخـر زادي
ثم إن الجارية قالت للملاح: أسرع بهما، فصار يقذف لأجل السرعة والجارية معهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملاح صار يقذف والجارية معهم إلى أن قطعوا ذلك الجانب وعدوا إلى البر الثاني، ثم انصرفت الجارية وودعتهما وطلعا في البر وقالت لهما: كان قصدي أن لا أفارقكما لكنني لا أقدر أن أسير إلى مكان غير هذا الموضع، ثم إن الجارية عادت وصار علي بن بكار مطروحاً بين يدي أبي الحسن لا يستطيع النهوض فقال له أبو الحسن: إن هذا المكان غير أمين ونخشى على أنفسنا من التلف في هذا المكان بسبب اللصوص وأولاد الحرام فقام علي بن بكار يتمشى قليلاً وهو لا يستطيع المشي، وكان أبو الحسن له في ذلك الجانب أصدقاء فقصد من يثق به ويركن إليه منهم فدق بابه فخرج إليه مسرعاً.
فلما رآهما رحب بهما ودخل بهم إلى منزله وأجلسهما وتحدث معهما وسألهما أين كانا فقال أبو الحسن: قد خرجنا في هذا الوقت وقد أحوجنا إلى هذا الأمر إنسان عاملته في دراهم وبلغني أنه يريد السفر بمالي فخرجت في هذه الليلة وقصدته واستأنست برفيقي هذا علي بن بكار، وجئنا لعلنا ننظره فتوارى منا ولم نره وعدنا بلا شيء وشق علينا العودة في هذا الليل ولم نر لنا محلاً غير محلك فجئنا إليك على عوائدك الجميلة فرحب بهما واجتهد في إكرامهما وأقاما عنده بقية ليلتهما.
فلما أصبح الصباح خرجا من عنده وما زالا يمشيان حتى وصلا إلى المدينة ودخلا وجازا على بيت إبي الحسن فحلف على صاحبه علي بن بكار وأدخله بيته فاضجعا على الفراش قليلاً، ثم أفاقا فأمر أبو الحسن غلمانه أن يفرشوا البيت فرشاً فاخراً ففعلوا، ثم إن أبا الحسن قال في نفسه: لا بد أن أؤانس هذا الغلام وأسليه عما هو فيه فإني أدرى بأمره، ثم إن علي بن بكار لما أفاق استدعى بماء فحضروا له الماء فقام وتوضأ وصلى ما فاته من الفروض في يومه وليلته وصار يسلي نفسه بالكلام.
فلما رأى منه ذلك أبو الحسن تقدم إليه وقال: على الأليق بما أنت فيه أن تقيم عندي هذه الليلة لينشرح صدرك وينفرج ما بك من كرب الشوق وتتلاهى معنا، فقال علي بن بكار: أفعل يا أخي ما بدا لك فإني على كل حال غير ناج مما أصابني فاصنع ما أنت صانع، فقام أبو الحسن واستدعى غلمانه وأحضر أصحابه وأرسل إلى أرباب المغاني والآلات فحضروا وأقاموا على أكل وشرب وانشراح باقي اليوم إلى المساء ثم أوقدوا الشموع ودارت بينهم كؤوس المنادمة وطاب لهم الوقت فأخذت المغنية العود وجعلت تقول:
رميت من الزمان بسهم لحظ فأضناني وفارقت الحبـائب
وعاندني الزمان وقل صبري وإني قبل هذا كنت حاسب
فلما سمع علي بن بكار كلام المغنية خر مغشياً عليه ولم يزل في غشيته إلى أن طلع الفجر ويئس منه أبو الحسن ولما طلع النهار أفاق وطلب الذهاب إلى بيته فلم يمنعه أبو الحسن خوفاً من عاقبة أمره فاتاه غلمانه ببغلة وأركبوه وصار معه أبو الحسن إلى أن أدخله منزله فلما اطمأن في بيته حمد الله أبو الحسن على خلاصه من هذه الورطة وصار يسليه وهو لا يتمالك نفسه من شدة الغرام ثم إن أبا الحسن ودعه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ودعه، فقال له علي بن بكار: يا أخي لا تقطع عني الأخبار فقال: سمعاً وطاعة ن ثم إن أبا الحسنقام من عنده وأتى إلى دكانه وفتحهافما جلس غير قليل حتى أقبلت إليه الجارية وسلمت فرد عليها السلام ونظر إليها فوجدهاخافقة القلب يظهر عليها أثر الكآبة، فقال لها أهلاً وسهلاً كيف حال شمس النهار؟ فقالت: سوف أخبرك بحاله، كيف حال علي بن بكار فأخبرها أبو الحسن بجميع ما كان من أمره فتأسفت وتأوهت وتعجبت من ذلك الأمر ثم قالت: إن حال سيدتي اعجب من ذلك ن لما توجهتم رجعت وقلبي يخفق عليكم وماصدقت بنجاتكم فلما رجعت وجدت سيتي مطروحة في القبة، لا تتكلم ولا ترد على احد وامير المؤمنين جالس عند رأسها لا يجد من يخبره بخبرها ولم يعلم ما بها ولم تزل في غشيتها إلى نصف الليل ثم أفاقت، فقال لها أمير المؤمنين: ما الذي أصابك يا شمس النهار؟ وما الذي اعتراك في هذه الليلة؟ فلما سمعت شمس النهار كلام الخليفة قبلت أقدامه وقالت له: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك إنه خامرني خلط، فأضرم النار في جسدي فوقعت مغشياً علي من شدة ما بي ولا اعلم كيف كان حالي، فقال لها الخليفة: ما الذي استعملتيه في نهارك؟ قالت: أفطرت على شيء لم آكله قط ثم أظهرت القوة واستدعيت بشيء من الشراب فشربته وسألت أمير المؤمنين أن يعود إلى انشراحه فعاد إلى الجلوس في القبة فلما جئت إليها سألتني بما فعلت معكما وأخبرتها بما أنشده علي بن بكار فسكتت، ثم إن أمير المؤمنين جلس وأمر الجارية بالغناء فأنشدت هذين البيتين:
ولم يصف لي شيء من العيش بعدكم فياليت شعري كيف حالكم بـعـدي
يحق لدمعي أن يكون مـن الـدمـا إذا كنتم تبكون دمعاً على بـعـدي
فلما سمعت هذا الشعر وقعت مغشياً عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
و في الليلة الثامنة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنالجارية قالت لأبي الحسن: إن سيدتي لما سمعت هذا الشعر وقعت مغشياً عليها فأمسكت يدها ورششت ماء الورد على وجهها فأفاقت، فقلت لها: يا سيدتي لا تهتكي نفسك ومن يحويه قصرك بحياة محبوبك أن تصبير، فقالت: هل في الأمر أكثر من الموت؟ فأنا أطلبه لأن فيه راحتي، فبينما نحن في هذا القول إذ غنت جارية بقول الشاعر:
وقالوا لعل الصبر يعقب راحة فقلت وأين الصبر بعد فراقه
وقد أكيد الميثاق بيني وبـينـه نقطع حبال الصبر عند عناقه
فلما فرغت من الشعر وقعت مغشياً عليها فنظرها الخليفة فأتى مسرعاً إليها وأمر برفع الشراب وأن تعود كل جارية إلى مقصورتها وأقام عندها باقي ليلته إلى أن أصبح الصباح فاستدعى الأطباء وأمرهم بمعالجتها ولم يعلم بما هي فيه من العشق والغرام وأقمت عندها حتى ظننت أنها قد انصلح حالها وهذا الذي عاقبي عن المجيء إليكما وقد خلقت عندها جماعة من خواصها لما أمرتني بالمسير إليكما لآخذ خبر علي بن بكار واعود إليها.
فلما سمع أبو الحسن كلامها تعجب وقال لها: والله أخبرتك بجميع ما كان من أمره فعودي إلى سيدتك وسلمي عليها وحثيها على الصبر وقولي لها اكتمي السر وأخبريها أني عرفت امرها وهو امر صعب يحتاج إلى التدبير فشكرته الجارية ثم ودعته وانصرفت إلى سيدتها. هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر أبي الحسن فإنه لم يزل في دكانه إلى آخر النهار فلما مضى النهار قام وقفل دكانه وأتى إلى دار علي بن بكار فدق الباب فخرج له بعض غلمانه وأدخله فلما دخل عليه تبسم واستبشر بقدومه وقال له: يا أبا الحسن اوحشتني لتخلفك عني في هذا اليوم وروحي متعلقة بك باقي عمري، فقال له أبو الحسن: دع هذا الكلام فلو أمكن فداءك كنت أفديك بروحي وفي هذا اليوم جاءت جارية شمس النهار وأخبرتني أنه ما اعاقها عن المجيء إلا جلوس الخليفة عند سيدتها وأخبرتني بما كان من امر سيدتها وحكى له جميع ما سمعه من الجارية فتأسف علي بن بكار غاية الأسف وبكى ثم التفت إلى أبي الحسن وقال له: بالله أن تساعدني على ما بليت به وأخبرني ماذا تكون الحيلة؟ وإني أسألك من فضلك المبيت عندي في هذه الليلة لأستانس بك، فامتثل أبو الحسن أمره واجابه إلى المبيت عنده، وباتا يتحدثان في تلك الليلة، ثم إن علي بن بكار بكى وأرسل العبرات وأنشد هذه الأبيات:
غفرت بسيف اللحظ ذمة مغفري وفرت برمح القد درع تصبري
وجعلت لنا من تحت مسكة خالها كافور فجر شق ليل العنبـري
فزعت فضرست العقيق بلؤلـؤ سكنت فرائده غدير الـسـكـر
وتنهدت جزعاً فأثـر كـفـهـا في صدرها فنظرت ما لم أنظر
أقلام مرجان كتبين تـعـتـبـر بصحيفة البلور خمسة أسطـر
يا حامل السيف الصقيل إذا رنت إياك ضربة جفنها المتكـسـر
وتوق يا رب القناة الطـعـن إن حملت عليك من القوم بأسمـر
فلما فرغ علي بن بكار من شعره صرخ صرخة عظيمة ووقع مغشياً عليه فظن أبو الحسن أن روحه خرجي من جسده ولم يزل في غشيته حتى طلع النهار فأفاق وتحدث مع أبي الحسن ولم يزل أبو الحسن جالساً عند علي بن بكار إلى صحوة النهار. ثم انصرف من عنده وجاء إلى دكانه وفتحها وإذا بالجارية جاءته ووقفت عنده، فلما نظر إليها أومأت إليه بالسلام فرد عليها السلام وبلغته سلام سيدتها وقالت له: كيف حال علي بن بكار؟ فقال لها: يا جارية لا تسألي عن حاله وما هو فيه من شدة الغرام فإنه لا ينام الليل ولا يستريح النهار وقد أنحله السهر وغلب عليه الضجر وصار في حال لا يسر حبيب فقالت له: إن سيدتي تسلم عليك وقد كتبت له ورقة وهي في حال أعظم من حاله وقد سلمتني الورقة، وقالت: لا تأتيني إلا بجوابها وافعلي ما أمرتك به وها هي الورقة معي فهل لك أن تسير معي إلى علي بن بكار، وتأخذ منه الجواب؟ فقال لها أبو الحسن: سمعاً وطاعة، ثم قفل الدكان وأخذ معه الجارية وذهب بها إلى مكان غير الذي جاء منه ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى دار علي بن بكار، ثم أوقف الجارية على الباب ودخل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ذهب بالجارية ودخل البيت فلما رآه علي بن بكار فرح به فقال له أبو الحسن: سبب مجيئي أن فلاناً أرسل إليك جاريته برقعة تتضمن سلامه وذكر فيها أن سبب تاخره عنك عذر حصل له، والجارية واقفة بالباب فهل تأذن لها بالدخول؟ فقال علي بن بكار: أدخلوها وأشار له أبو الحسن انها جارية شمس النهار ففهم الإشارة، فلما رآها تحرك وفرح وقال لها بالإشارة: كيف حال السيدة شفاها الله وعافاها؟ فقالت بخير، ثم أخرجت الورقة ودفعتها له فأخذها وقبلها وناولها لأبي الحسن فوجد مكتوبا فيها هذه الأبيات:
ينبيك هذا الرسول عن خبـري فاستغن في ذكره عن النظـر
خلقت صبا بحـبـكـم دنـفـا وطرفه لا يزال بالـسـهـر
أكابد الصبر في البلاء فـمـا قلبي حلق مواقـع الـقـدر
فقر عيناً فلست تبـعـد عـن قلبي ولا يوم غبت عن بصري
وانظر إلى جسمك النحيل وما قد حله واسـتـدل بـالأثـر
و بعد فقد كتبت لك كتاباً بغير بيان وأطلقت لك بغير لسان وجملت شرح حالي أنلي عيناً لا يفارقها السهر وقلباً لا تبرح عنه الفكر فكأنني قط ما عرفت صحة ولا فرحة ولا رأيت منظراً باهياً ولا قطعت عيشاً هنياً، وكانني خلقت من الصبابة ولم ألم الوجد والكآبة فعلى السقام مترادف والغرام متضاعف والشوق متكاسر وصوت كما قال الشاعر:
القلب منقبض والفكر منبسـط والعين ساهرة والجسم متعوب
والصبر منفصل والهجر متصل والعقل مختبل والقلب مسلوب
و اعلم أن الشكوى لا تطفئ نار البلوى لكنها تتعلل من أعله الإشتياق وأتفله الفراق وغني اتسلى بذكر نفط الوصال وما أحسن قول من قال:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا فأين حلاوات الرسائل والكـتـب
قال أبو الحسن: فلما قرأناها هيجت ألفاظي بلابلي وأصابت معانيها مقاتلي ثم دفعتها إلى الجارية فلما اخذتها قال لها علي بن بكار: أبلغي سيدتك سلامي وعرفيها بوجدي وغرامي وامتزاج المحبة بلحمي وعظامي واخبريها انني محتاج إلى من ينقذني من بحر الهلاك وينجيني من هذا الإرتباك، ثم بكى فبكت الجارية لبكائه وودعته وخرجت من عنده وخرج أبو الحسن معها، ثم ودعها ومضى إلى دكانه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ودع الجارية ورجع إلى دكانه فلما جلس فيه وجد قلبه انقبض وضاق صدره وتحير في أمره ولم يزل في فكر بقية يزمه وليلته وفي اليوم الثاني ذهب إلى علي بن بكار وجلس عنده حتى ذهبت الناس وساله عن حاله فأخذ في شكوى الغرام وما به من الوجد والهيام وأنشد يقول:
شكا ألم الغرام الناس قبلـي وروع بالنوى حي ومـيت
واما مثل ما ضمت ضلوعي فإني لا سمعـت ولا رأيت
فقال أبو الحسن: أنا ما رأيت ولا سمعت بمثلك في محبتك كيف يكون هذا الوجد وضعف الحركة، وقد تعلقت بحبيب موافق فكيف إذا تعلقت بحبيب مخالف مخادع فكان أمرك ينكشف؟ قال ابو الحسن: فركن علي بن بكار إلى كلامي وشكرني على ذلك وكان لي صاحب يطلع على أمري وامر علي بن بكار ويعلم أننا متوافقان ولم يعلم أحد ما بيننا غيره وكان يأتيني فيسألني عن حال علي بن بكار وبعد قليل يسألني عن الجارية فقلت له: قد دعته إليها، وكان بينه وبينها ما لا مزيد عليه وهذا آخر ما انتهى من أمرهما ولكن دبرت لنفسي أمر أريد عرضه عليك. فقال له صاحبه: ما هو؟ قال أبو الحسن: اعلم أن رجل معروف بكثرة المعاملات بين الرجال والنساء وأخشى أن ينكشف أمرهما فيكون سبباً لهلاكي وأخذ مالي وهتك عيالي وقد اقتضى رأيي أن أجمع مالي وأجهز حالي وأتوجه إلى مدينة البصرة وأقيم بها حتى أنظر ما يكون من أحوالهما بحيث لا يشعر بي أحد فإن المحبة قد تمكنت منهما ودارت المراسلة بينهما، والحال أن الرسول بينهما جارية وهي كاتمة لأسرارهما واخشى أن يغلب عليها الضجر فتبوح بسرهما لأحد فيشيع خبرهما ويؤدي ذلك إلى هلاكي ويكون سبباً لتلفي وليس لي عذر عند الناس، فقال له صاحبه قد أخبرتني بخبر خطير يخاف من مثله العاقل الخبير كفاك الله شر ما تخافه وتخشاه ونجاك مما عقباه وهذا الرأي هو الصواب.
فانصرف أبو الحسن إلى منزله وصار يقضي مصالحه ويتجهز للسفر إلى البصرة، وقد قضى مصالحه وسافر إلى البصرة فجاء صاحبه بعد ثلاثة أيام ليزوره فلم يجده فسأل عنه جيرانه فقالوا له: إنه توجه من مدة ثلاثة أيام إلى البصرة لأن له معاملة عند تجارها فذهب ليطالب أرباب الديون وعن قريب يأتي، فاحتار الرجل في أمره وصار لا يدري أين يذهب وقال: يا ليتني لم أفارق أبا الحسن، ثم دبر حيلة يتوصل بها إلى علي بن بكار فقصد داره وقال لبعض غلمانه: استأذن لي سيدك لأدخل أسلم عليه، فدخل الغلامو اخبر سيده به ثم عاد إليه وأذن له بالدخول فدخل عليه فوجده ملقى على الوسادة فسلم عليه فرد عليه السلام ورحب. ثم إن الرجل اعتذر إليه في تخلفه عنه تلك المدة، ثم قال له: يا سيدي إن بيني وبينك وبين أبي الحسن صداقة وإني كنت أودعه أسراري ولا أنقطع عنه ساعة فغبت في بعض المصالح مع جماعة من أصحابي مدة ثلاثة أيام ثم جئت إليه فوجدت دكانه مقفلة فسألت عنه الجيران فقالوا: إنه توجه إلى البصرة ولم أعلم له صديقاً أوفى منك، فبالله أن تخبرني بخبره، فلما سمع علي بن بكار بكلامه تغير لونه واضطرب وقال: لم أسمع قبل هذا اليوم خبر سفره وإن كان الأمر كما ذكرت فقد حصل لي التعب ثم أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
قد كنت أبكي على ما فات مني من فرح وأهل ودي جمـيعـاً غـير أشـتـات
واليوم فـرق مـا بـينـي وبـينـهـم دهري فأبكي على أهـل الـمـودات
ثم إن علي بن بكار أطرق رأسه إلى الأرض يتفكر وبعد ساعة رفع رأسه إلى خادم له وقال له: امض إلى دار أبي الحسن واسأل عنه هل هو مقيم أم مسافر؟ فإن قالوا: سافر فاسأل إلى أي ناحية توجه؟ فمضى الغلام وغاب ساعة ثم أقبل إلى سيده وقال: إني لما سألت عن أبي الحسن أخبرني أتباعه أنه مسافر إلى البصرة ولكن وجدت جارية واقفة على الباب فلما رأتني عرفتني ولم أعرفها وقالت لي: هل أنت غلام علي بن بكار؟ فقلت لها: نعم فقالت: إني معي رسالة إليه من عند أعز الناس عليه فجاءت معي وهي واقفة على الباب، فقال علي بن بكار: أدخلها، فطلع الغلام إليها وأدخلها فنظر الرجل الذي عند علي بن بكار إلى الجارية فوجدها ظريفة ثم إن الجارية تقدمت إلى علي بن بكار وسلمت عليه.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما دخلت على علي بن بكار تقدمت إليه وسلمت عليه وتحدثت معه سراً وصار يقسم في أثناء الكلام ويحلف أنه لم يتكلم بذلك، ثم ودعته وانصرفت وكان الرجل صاحب أبي الحسن جواهرجياً فلما انصرفت الجارية وجد للكلام محلاً فقال لعلي بن بكار: لا شك ولا ريب لدار الخلافة عليك مطالبة أو بينك وبينها معاملة فقال: ومن أعلمك بذلك؟ فقال: معرفتي بهذه الجارية لأنها جارية شمس النهار وكانت جاءتني من مدة برقعة مكتوب فيها أنها تشتهي عقد جواهر فأرسلت لها عقداً ثميناً.
فلما سمع علي بن بكار كلامه اضطرب حتى غشي عليه ثم عاد إلى نفسه وقال: يا أخي سألتك بالله من أين تعرفها؟ فقال له الجواهرجي: دع الإلحاح في السؤال، فقال له علي بن بكار: لا أرجع عنك إلا إذا أخبرتني بالصحيح فقال له الجواهرجي: أنا أخبرك بحيث لا يدخلك مني وهم ولا يعتريك من كلامي انقباض ولا أخفي عنك سراً وأبين لك حقيقة الأمر ولكن بشرط أن تخبرني بحقيقة حالك وسبب مرضك، فأخبره بخبره ثم قال: والله يا أخي ما حملني على كتمان أمري من غيرك إلا مخافة أن الناس تكشف أستار بعضها فقال الجواهرجي لعلي بن بكار: وأنا ما اردت اجتماعي بك إلا لشدة محبتي لك وغيرتي عليك وشفقتي على قلبك من ألم الفراق عسى أن أكون لك مؤنساً نيابة عن صديقي أبو الحسن مدة غيبته فطب نفساً وقر عيناً فشكره علي بن بكار على ذلك وأنشد هذين البيتين:
ولو قلت اني صابر بعـد بـعـده لكذبني دموع وفرط نـحـيبـي
وكيف أداري مدمعـاً جـريانـه على صحن خدي من فراق حبيبي
ثم إن علي بن بكار سكت ساعة من الزمان وبعد ذلك قال للجواهرجي أتدري ما أمرتني به الجارية؟ فقال: لا والله يا سيدي فقال: إنها زعمت أني أشرت على أبي الحسن بالمسير إلى مدينة البصرة وانني دبرت بذلك حيلة لأجل عدم المراسلة والمواصلة فحلفت لها أن ذلك لم يكن فلم تصدقني ومضت إلى سيدتها وهي على ما هي عليه من سوء الظن لأنها كانت تصغي إلى أبي الحسن، فقال الجواهرجي: يا أخي إني فهمت من حال هذه الجارية هذا الأمر ولكن إن شاء الله تعالى أمون عوناً لك على مرادك فقال له علي بن بكار: وكيف تعمل معها وهي تنفر كوحش الفلاة؟ فقال له: لا بد أن أبذل جهدي في مساعدتك واحتيالي في التوصل إليها من غير كشف ستر ولا مضرة ثم استأذن في الإنصراف فقال له علي بن بكار: يا أخي عليك بكتمان السر ثم نظر إليه وبكى فودعه وانصرف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والتسعون بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواهرجي ودعه وانصرف وهو لا يدري كيف يعمل في إسعاف علي بن بكار ومازال ماشياً وهو متفكر في أمره إذ رأى ورقة مطروحة في الطريق فأخذها ونظر عنوانها وقرأها فإذا هي من المحب الأصغر إلى الحبيب الأكبر ففتح الورقة فرأى مكتوباً فيها هذين البيتين:
جاء الرسول بوصل منك يطمعني وكان أكثر ظني أنـه وهـمـا
فما فرحت ولكن زادني حـزنـاً علمي بأن رسولي لم يمن فهمـا
و بعد فاعلم يا سيدي أنني لم أدر ما سبب قطع المراسلة بيني وبينك فإن يكن صدر منك الجفاء فأنا أقابله بالوفاء وإن يكن ذهب منك الوداد فانا أحفظ الود على البعاد كما يقول الشاعر:
به أحتمل وأستطل أصبر وعزاهن وول أقبل وقل اسمع ومر اطلع
فلما قرآها إذا بالجارية أقبلت تتلفت يميناً وشمالاً فرأت الورقة في يده فقالت: إن هذه الورقة وقعت مني فلم يرد عليها جواباً ومشى ومشت الجارية خلفه إلى أن أقبل على داره ودخل والجارية خلفه فقالت له: يا سيدي رد لي هذه الورقة فإنها سقطت مني فالتفت إليها وقال: يا جارية لا تخافي ولا تحزني ولكن أخبريني الصدق فإني كتوم للأسرار وأحلفك يميناً أنك لا تخفي عني شيئاً من أمر سيدتك فعسى الله أن يعينني على قضاء أغراضك ويسهل الأمور الصعاب على يدي، فلما سمعت الجارية كلامه قالت: يا سيدي ما ضاع سر أنت حافظه ولا خاب أمر أنت تسعى في قضائه ن اعلم أن قلبي مال إليك فانا أخبرك بحقيقة الأمر لتعطيني الورقة، ثم أخبرته بالخبر كله وقالت: والله على ما أقول شهيد، فقال لها: صدقت فإن عندي علم بأصل الخبر ثم حدثها بحديث علي بن بكار وكيف أخذ ضميره وأخبرها بالخبر من أوله إلى آخره. فلما سمعت ذلك فرحت واتفقا على انها تأخذ الورقة وتعطيها لعلي بن بكار وجميع ما يحصل ترجع إليه وتخبره به فأعطاها الورقة فأخذتها وختمتها كما كانت وقالت: إن سيدتي شمس النهار أعطتها إلي مختومة فإذا قرأها ورد جوابها أتيتك به. ثم إن الجارية ودعنه وتوجهن إلى علي بن بكار فوجدته في افنتظار فاعطته الورقة وقرأها ثم كتب لها ورقة رد للجواب وأعطاها لها فأخذتها ورجعت بها إلى الجواهرجي حسب الإتفاق ففض ختمها وقرأها فرأى مكتوباً فيها:
إن الرسول الذي كانت رسائلـنـا مكتومة عنده ضاقت وقد غضبـا
فاستخلصوا لي رسولاً منكم ثـقة يستحسن الصدق لا يستحسن الكذبا
و بعد فإني لم يصدر مني جفاء ولا تركت وفاء ولا نقضت عهداً ولا قطعت وداً ولا فارقت أسفاً وو لا لقيت بعد الفراق إلا تلفاً ولا علمت أصلاً بما ذكرتم ولا أحب غير ما احببتم وحق عالم السر والنجوى وا قصدي غير الإجتماع بمن أهوى وشأني كتمان الغرام وإن أمرضني السقام وهذا شرح حالي والسلام. فلما قرأ الجواهرجي هذه الورقة وعرف ما فيها بكى بكاءً شديداً ثن إن الجارية قالت له: لا تخرج من هذا المكان حتى أعود إليك لأنه قد اتهمني بأمر من الأمور وهومعذور وانا أريد أن أجمع بينك وبين سيدتي شمس النهار بأي حيلة فإني تركتها مطروحة وهي تنتظر مني رد الجواب. ثم إن الجارية مضت إلى سيدتها ولم تغب إلا قليلاً وعادت إلى الجواهرجي وقالت له: احذر أن يكون عندك جارية أم غلام؟ فقال: ما عندي غير جارية سوداء كبيرة السن تخدمني فقامت الجارية وأغلقت الأبواب بين جارية الجواهرجي وبينه وصرفت غلمانه إلى خارج الدار ثم خرجت الجارية وعادت ومعها جارية خلفها ودخلت دار الجواهرجي فعبقت الدار من الطيب فلما رآها الجواهرجي نهض قائماً ووضع لها مخدة وجلس بين يديها فمكثت ساعة لا تتكلم حتى استراحت ثم كشفت وجهها فخيل للجواهرجي أن الشمس أشرقت في منزله ثم قالت لجارتها: هذا الرجل الذي قلت لي عليه؟ فقالت الجارية: نعم فالتفتت إلى الجواهرجي وقالت له: كيف حالك؟ قال: بخير، ودعا لها، فقالت: إنك حملتنا المسير إليك وإن نطلعك على ما يكون من سرنا، ثم سألته عن اهله وعياله فأخبرها بجميع احواله وقال لها: إن لي داراً غير هذه الدار جعلتها للإجتماع بالاصحاب والأخوان ليس لي فيها إلا ما ذكرته لجاريتك، ثم سألته عن كيفية اطلاعه على أصل القصة فاخبرها بما سألته عنه من أول الأمر إلى آخره فتأوهت على فراق إبي الحسن وقالت: يا فلان اعلم أن أرواح الناس متلائمة في الشهوات والناس بالناس ولا يتم عمل إلا بقول، ولا يتم غرض إلا بمعين، ولا تحصل راحة إلا بعد تعب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شمس النهار قالت للجواهرجي: لا تحصل راحة إلا من بعد تعب ولا يظهر نجاح إلا من ذوي مروءة، وقد أطلعتك الآن على أمرنا وصار بيدك هتكاً ولا زيادة لما أنت عليه من المروءة، فأنت قد علمت إن جاريتي هذه كاتمة لسري وبسبب ذلك لها رتبة عظيمة عندي وقد اختصصتها بمهمات أموري فلا يكن عندك أعز منها وأطلعها على أمرك وطب نفساً فأنت آمن مما تخافه من جهتنا ومما يسد عليك موضع إلا وتفتحه لك وهي تأتيك من عندي بأخبار علي بن بكار وتكون أنت الواسطة في التبليغ بيني وبينه.
ثم إنشمس النهار قامت وهي لا تستطيع القيام ومشت فتمشى بين يديها الجواهري حتى وصلت إلى باب الدار، ثم رجع وقعد في موضعه بعد أن نظر من حسنها ما بهره وسمع من كلامها ما حير عقله وشاهد من ظرفها وأدبها ما أدهشه، ثم استمر يتفكر في شمائلها حتى سكنت نفسه وطلب الطعام فأكل ما يمسك رمقه، ثم غير ثيابه وخرج من داره وتوجه إلى علي بن بكار غلمانه ومشوا بين يديه إلى أن وصلوا إلى سيدهم فوجدوه ملقى على فراشه.
فلما رأى الجواهرجي قال له: أبطأت علي فزدتني هماً على همي، ثم صرف غلمانه وأمر بغلق أبوابه وقال له: والله ما غمضت عيني من يوم ما فارقتني فإن الجارية جاءتني بالأمس ومعها رقعة مختومة من عند سيدتها شمس النهار وحكى له علي بن بكار على جميع ما وقع له معها وقال: لقد تحيرت في أمري وقل صبري وكان لي ابو الحسن أنيساً لأنه يعرف الجارية، فلما سمع الجواهرجي كلام ابن بكار ضحك فقال له ك تضحك من كلامي وقد استبشرت بك واتخذتك عدة للنائبات؟ ثم بكى وأنشد هذه الأبيات:
وضاح من بكائي حين أبصرني لو كان قاسى الذي قاسيت أبكاه
لم يرث للمبتلي ممـا يكـابـده إلا شبح منه قد طـال بـلـواه
وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي إلى حبيب زوايا القلب مـأواه
حل الفؤاد مقيمـاً لا يفـارقـه وقتاً ولكنه ضعيف قد عز لقياه
ما لي سواه خليل أرتضي بـدلاً وما اصطفيت حبيباً قط إلا هو
فلما سمع الجواهرجي منه هذا الكلام وفهم الشعر والنظام بكى لبكائه وأخبره بما جرى مع الجارية من حين فارقه فصار ابن بكار يصغي إلى كلامه وكلما سمع منه كلمة يتغير لون وجهه من صفرة إلى احمرار ويقوى جسمه مرة ويضعف أخرى، فلما انتهى إلى آخر الكلام بكى ابن بكار وقال له: يا أخي أنا على كل حال هالك فليت أجلي قريب وأسألك من فضلك أن تكون ملاطفي في جميع أموري إلى أن يقضي الله ما يريد وانا لا أخالف لك قولاً. فقال الجواهرجي: لا يطفئ عنك هذه النار إلا الإجتماع بمن شغفت بها ولكن في غير هذا المكان وإنما يكون ذلك عندي في بيت جنب بيتي الذي جاءتني فيه الجارية هي وسيدتها وهو الموضع الذي اختارته لنفسها والمقصود اجتماعكما ببعضكما وفيه تشكوان لبعضكما ما قاسيتما. فقال علي بن بكار: افعل ما تريد والذي تراه هو الصواب.
قال الجواهرجي: فأقمت عنده تلك الليلة أسامره إلى أنأصبح الصباح، ثم صليت الصبح وخرجت من عنده وذهبت إلى منزلي فما استقريت إلا قليلاً وسلمت علي فرددت عليها السلام وحدثتها بما كان بيني وبين علي بن بكار، فقالت الجارية: اعلم أن الخليفة توجه من عندنا وإن مجلسنا لا أحد فيه وهو أستر لنا وأحسن فقلت لها: كلامك صحيح ولكنه ليس كمنزلي هذا.
فقالت الجارية: إن الرأي ما تراه أنت وأنا ذاهبة إلى سيدي لأخبرها بما ذكرت وأعرض عليها ما قلت، ثم إن الجارية توجهت إلى سيدتها وعرضت عليها الكلام وعادت إلى منزلي وقالت لي: إن سيدتي رضيت بما قلته، ثم إن الجارية أخرجت من جيبها كيساً فيه دنانير وقالت: إن سيدتي تسلم عليك وتقول لك: خذ هذا واقض لنا ما نحتاج إليه، فأقسمت أني لا أصرف شيئاً منه فأخذته الجارية وعادت إلى سيدتها وقالت لها: إنه ما قبل الدراهم بل دفعها إلي، وبعد رواح الجارية ذهبت إلى داري الثانية وحولت إليها من الآلت والفرش ما يحتاج إليه الحال ونقلت إليها أواني الفضة والصيني وهيأت جميع ما نحتاج إليه من المآكل والمشرب. فلما حضرت الجارية ونظرت ما فعلته أعجبها وأمرتني بإحضار علي بن بكار فقلت: ما يحضر به إلا أنت، فذهبت إليه واحضرته على أتم حال وقد راقت محاسنه فلما جاء قابلته ورحبت به وأجلسته على مرتبنة تصلح له ووضعت بين يديه شيئاً من المشموم في بعض الأواني الصيني والبلور وصرت أتحدث معه ساعة من الزمان، ثم إن الجارية مضت وغابت إلى بعد صلاة المغرب ثم عادت ومعها شمس النهار ووصيفتان لا غير فلما رأت علي بن بكار ورآها سقطا على الأرض مغشياً عليهما واستمرا ساعة زمنية فلما أفاقا أقبلا على بعضهما ثم جلسا يتحدثان بكلام رقيق وبعد استعملا شيئاً من الطيب ثم إنهما صارا يشكران صنعي معهما. فقلت لهما: هل لكما في شيء من الطعام؟ فقالا نعم، فأحضرت شيئاً من الطعام فاكلا حتى اكتفيا ثم غسلا أيديهما ثم نقلتهما إلى مجلس آخر واحضرت لهما الشراب فشربا وسكرا ومالا على بعضهما، ثم إن شمس النهار قالت لي: يا سيدي كمل جميلك واحضر لنا عوداً أو شيئاً من آلت الملاهي حتى أننا نكمل حظنا في هذه الساعة، فقلت: على رأسي وعيني، ثم إني قمت واحضرت عوداً فأخذته وأصلحته ثم إنها وضعته في حجرها وضربت عليه جميلاً ثم أنشدت هذين البيتين:
أرقت حتى كأني أعشق الأرقـا وذبت حتى تراءى السقم لي خلقا
وفاض دمعي على خدي فأحرقه يا ليت شعري هل بعد الفراق لقا
ثم إنها أخذت في غناء الأشعار حتى حيرت الأفكار بأصوات مختلفات وإشارات رائقات وكاد المجلس أن يصح من شدة الطرب لما أتت فيه من مغانيها بالعجب، ثم قال الجواهرجي: ولما استقر بنا الجلوس ودارت بيننا الكؤوس أطربت الجارية بالنغمات وانشدت هذه الأبيات:
وعد الحبيب بوصله ووفى لي في ليلة ساعدها بـلـيالـي
يا ليلة سمح الزمان لنا بـهـا في غفلة الواشين والعـذال
بات الحبيب يضمني بيمينـه فضممته من فرحي بشمالي
عانقته ورشفت خمرة ريقـه وحظيت بالمعسول والعسال
ثم إن الجواهرجي تركهما في تلك الدار وانصرف إلى دار سكناه وبات فيها إلى الصباح، ولما أصبح الصبح صلى فرضه وشرب القهوة وجلس يفكر في المسير إليهما في داره الثانية، فبينما هو جالس إذ دخل عليه جاره وهو مرعوب وقال: يا أخي ما هان علي الذي جرى لك الليلة في دارك الثانية، فقلت له: يا أخي وأي شيء جرى في داري؟ فقال له: إن اللصوص قد رأوك بالأمس وأنت تنقل حوائجك إلى دارك الثانية فجاؤا إليها ليلاً وأخذوا ما عندك. وقد حضرت لداري تلك فوجدتها خالية من الأثاث، ولا أثر لعلي بن بكار وشمس النهار ولا لوصيفتيها، فدهشت لذلك وبعدفترة وجيزة جاءني شخص لا أعرفه فقال لي: إذا كنت تريد إعادة أغراضك إليك فسر معي ولا تتكلم بشيء، فسرت معه فأخذني لعند رفاقه الذين قالوا لي: أطلعنا على خبرك ولا تكذب في شيء، فقلت لهم: اعلموا إن حالي عجيب وأمري غريب فهل عندكم شيء من خبري؟ فقالوا: نعم نحن الذين أخذنا أمتعتك في الليلة الماضية وأخذنا صديقك والتي كانت تغني، فقلت لهم: أسبل الله عليكم ستره، أين صديقي هو والتي كانت تغني؟ فأشاروا إلي بأيديهم إلى ناحية وقالوا: ههنا ولكن يا أخي ما ظهر على سرهما أحد منا ومن حين أتينا بهما لم نجتمع عليهما ولم نسألهما عن حالهما لما رأينا عليهما من الهيبة والوقار وهذا هو الذي منعنا عن قتلهما فأخبرنا عن حقيقة أمرهما وانت في أمان على نفسك وعليهما، قال الجواهرجي: فلما سمعت هذا الكلام.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواهرجي قال: لما سمعت هذا الكلام كدت أهلك من الخوف والفزع وقلت لهم: اعلموا أن المرأة إذا ضاعت لا توجد إلا عندكم وإذا كان عندي سر أخاف إفشاءه فلا يخفيه إلا صدوركم، وصرت أبالغ في هذا المعنى، ثم إني وجدت المبادرة لهم باحديث أنفع من كتمانه بجميع ما وقع لي حتى انتهيت آخر الحديث، فلما سمعوا حكايتي قالوا: وهل هذا الفتى علي بن بكار وهذه شمس النهار؟ فقلت لهم: نعم، فذهبوا إليهما واعتذروا لهما ثم قالوا: إن الذي أخذناه من دارك ذهب بعضه وهذا ما بقي منه، ثم ردوا إلي أكثر الأمتعة والتزموا أنهم يعيدوها إلى محلها في داري ويردون إلي الباقي ولكن اقسموا نصفين فصار قسم منهم معيثم خرجبا من تلف الدار، هذا ما كان من أمري.
و أما ما كان من أمر علي بن بكار وشمس النهار فإنهما قد أشرفا على الهلاك من الخوف، ثم تقدمت إلى علي بن بكار وشمس النهار وسلمت عليهما وقلت لهما: يا ترى ما جرى للجارية والوصيفتين وأين ذهبتا؟ فقالا: لا علم لنا بهن ولم نزل سائرين إلى أن انتهينا إلى المكان الذي فيه الزورق فأطلعونا فيه وإذا هو الزورق الذي عدينا بالأمس فقذف بنا الملاح حتى أوصلنا إلى البر الثاني فانزلونا فم استقر بنا الجلوس على جانب البر حتى جاءت خيالة واحاطوا بنا من كل جانب فوثب الذين معنا عاجلاً كالعقبان فرجع لهم الزورق فنزلوا فيه وسار بهم في البحر وبقيت أنا وعلي بن بكار وشمس النهار على شاطيء البحر لا نستطيع حركة ولا سكوناً فقال لنا الخيالة: من أين انتم؟ فتحيرنا في الجواب.
قال الجواهرجي: فقلت لهم: إن الذين رأيتموهم لا نعرفهم وإنما رأيناهم هنا وأما نحن فمغنون فأرادوا أخذنا لنغني لهم فما تخلينا منهم إلا بالحيلة ولين الكلام فأفرجوا عنا في هذه الساعة وقد كان منهم ما رأيتم من أمرهم فنظر الخيالة إلى شمس النهار وإلى علي بن بكار ثم قالوا لي: لست صادقاً فأخبرنا من أنتم ومن أين أتيتم وما موضعكم وفي أي الحارات انتم ساكنون؟ قال الجواهرجي: فلم أدر ما أقول، فوثبت شمس النهار وتقدم إلى مقدم الخيالة وتحدثت معه سراً فنزل من فوق جواده واركبها عليه وأخذ بزمامها وصار يقودها وكذلك فعل بعلي بن بكار وبي أيضاً. ثم إن مقدم الخيالة لم يزل سائراً بنا إلى موضع على جانب البحر وصاح بالرطانة فأقبل له جماعة من البرية فأطلعنا المقدم في زورق وأطلع أصحابه في زورق آخر فقذفوا بنا إلى أن انتهينا إلى دار الخلافة ونحن نكابد الموت من شدة الخوف فدخلت شمس النهار وأما نحن فرجعنا ولم نزل سائرين إلى أن انتهينا إلى المحل الذي نتوصل منه إلى موضعنا فنزلنا على البر ومشينا ومعنا جماعة من خيالة يؤانسوننا إلى أن دخلنا الدار، وحين دخلناها ودعنا من كان معنا من الخيالة ومضوا في حال سبيلهم، وأما نحن فقد دخلنا مكاننا ونحن لا نقدر أن نتحرك من مكاننا ولا ندري الصباح من المساء، ولم نزل على هذه الحالة إلى أن أصبح الصباح.
فلما جاء آخر النهار سقط علي بن بكار مغشياً عليه وبكت عليه النساء والرجال وهو مطروح لم يتحرك فجاءني بعض أهله وقالوا: حدثنا بما جرى لولدنا وأخبرنا بسبب الحال الذي هو فيه؟ فقلت: يا قوم اسمعوا كلامي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواهرجي قال: لا تفعلوا به مكروهاً واصبروا وهو يفيق ويخبركم بقصته بنفسه، ثم شددت عليهم وخوفتهم من الفضيحة بيني وبينهم، فبينما نحن كذلك وإذا بعلي بن بكار تحرك من فراشه ففرح أهله وانصرف الناس عنه ومنعني أهله من الخروج من عنده ثم رشوا ماء الورد على وجهه، فلما أفاق وشم الهواء صاروا يسألونه عن حاله فصار يخبرهم ولسانه لا يرد جواباً بسرعة، ثم أشار إليهم أن يطلقوني لأذهب إلى منزلي فأطلقوني فخرجت، فلما أردت المسير رأيت امرأة واقفة فتأملتها وإذا هي جارية شمس النهار فلما عرفتها سرت وهرولت في سيري فتبعتني فداخلني منها الفزع وصرت كلما أنظرها يأخذني الرعب منها وهي تقول لي: قف حتى أحدثك بشيء وأنا لم ألتفت إليها ولم أزل سائراً إلى مسجد في موضع خال من الناس فقالت لي: ادخل المسجد لأقول لك كلمة ولا تخف من شيء، فدخلت المسجد ودخلت خلفي فصليت ركعتين ثم تقدمت إليها وأنا أتأوه وقلت لها: ما بالك؟ فسألتني عن حالي فحدثتها بما وقع لي وأخبرتها بما جرى لعلي بن بكار وقلت لها: ما خبرك؟ فقالت: اعلم أني لما رأيت الرجال كسروا باب دارك ودخلوا خفت منهم وخشيت أن يكونوا من عند الخليفة فيأخذوني أنا وسيدتي فنهلك من وقتنا فهربت من السطوح أنا والوصيفتان ورمينا أنفسنا من مكان عال ودخلنا على قوم فهربنا عندهم حتى وصلنا إلى قصر الخلافة ونحن على أقبح صفة ثم أخفينا أمرنا وصرنا نتقلب على الجمر إلى أن جن الليل ففتحت باب البحر واستدععيت الملاح الذي أخرجنا تلك الليلة وقلت له: إن سيدتي لم نعلم لها خبراً احملني في الزورق حتى أفتش عليها في البحر لعلي أقع على خبرها فحملني في الزورق وسار بي ولم أزل سائرة في البحر حتى انتصف الليل فرأيت زورقاً أقبل لإلى جهة الباب وفيه رجلاً يقذف ومعه رجل آخر وامرأة مظروحة بينهما وما زال يقذف حتى وصل إلى البر فلما نزلت المرأة تأملتها فإذا هي شمس النهار فنزلت إليها وقد اندهشت من الفرحة لما رأيتها بعدما قطعت الرجاء منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت للجواهرجي فنزلت إليهما وقد اندهشت من الفرح فلما تقدمت بين يديها أمرتني أن أدفع إلى الرجل الذي جاء بها ألف دينار، ثم حملتها أنا والوصيفتان إلى أن ألقيناها على فراشها فأقامت تلك الليلة على حالة مكدرة، فلما أصبح الصباح منعت الجواري والخدم من الدخول عليها والوصول إليها ذلك اليوم وفي ثاني يوم أفاقت مما كان بها، فوجدتها كأنها خرجت من مقبرة فرئت على وجهها ماء الورد وغيرت ثيابها وغسلت يديها ورجليها ولم أزل ألاطفها حتى أطعمتها شيئاً من الطعام وأسقيتها شيئاً من الأشربة وهي ليس لها قابلية في شيء من ذلك فلما شمت الهواء وتوجهت إليها العافية قلت لها: يا سيدتي أرفقي بنفسك فقد حصل لك من المشقة ما فيه الكفاية فإنك قد أشرفت على الهلاك فقالت: والله يا جارية الخير إن الموت عندي اهون مما جرى لي فإني كنت مقتولة لا محالة لأن اللصوص لما خرجوا بنا من دار الجواهرجي سألوني وقالوا: من أنت وما شأنك؟ فقلت: أنا جارية من المغنيات فصدقوني ثم سألوا علي بن بكار عن نفسه وقالوا: من أنت وما شأنك؟ فقال: أنا من عوام الناس فأخذونا وسرنا معهم إلى أنانتهوا بنا إلى موضعهم، ونحن نسرع في السير معهم من شدة الخوف.
فلما استقروا بنا في أماكنهم تأملوني ونظروا ما علي من الملبوس والعقود والجواهر فأنكروا أمري وقالوا: إن هذه العقود لا تكن لواحدة من المغنيات ثم قالوا: صدقينا وقولي لنا الحق وما قضيتك؟ فلم أرد عليهم جواباً بشيء وقلت في نفسي: الآن يقتلونني لأجل ما علي من الحلي والحلل فلم أنطق بكلمة ثم التفتوا إلى علي بن بكار وقالوا له: من أين أنت فإن رؤيتك غير رؤية العوام، فسكت وصرنا نكتم أمرنا ونبكي فحنن الله علينا قلوب اللصوص. فقالوا لنا: من صاحب الدار التي كنتما فيها؟ فقلنا لهم: صاحبها فلان الجواهرجي فقال واحد منهم: أنا أعرفه حق المعرفة وأعرف أنه ساكن في داره الثانية وعلي أن آتيكم به في هذه الساعة، واتفقوا على أن يجعلني في موضع وحدي وعلي بن بكار في موضع وحده وقالوا لنا: استريحا ولا تخافا أن ينكشف خبركما وأنتما في أمان منا ثم إن صاحبهما مضى إلى الجواهرجي وأتى به وكشف أمرنا لهم وأجمعنا عليه، ثم إن رجلاً منهم أحضر لنا زورقاً وأطلعونا فيه وعدوا بنا إلى الجانب الثاني ورمونا إلى البر وذهبوا فأتت خيالة من أصحاب العسس وقالوا: من تكونون؟ فتكلمت مع مقدم العسس وقلت له: أنا شمس النهار محظية الخليفة وقد سكرت وخرجت لبعض معارفي من نساء الوزراء فجاءني اللصوص وأخذوني وأوصلوني إلى هذا المكان، فما رأوكم فروا هاربين وأنا قادرة على مكفأتك.
فلما سمع كلامي مقدم الخيالة عرفني ونزل عن مركوبه وأركبني وفعل كذلك مع علي بن بكار والجواهرجي وفي كبدي الآن من أجلهما لهيب النار لا سيما الجواهرجي رفيق اب بكار فامض إليه وسلمي عليه واستفسري عن علي بن بكار فلمتها على ما وقع منها وحذرتها وقلت لها: يا سيدتي خافي على نفسك فصاحت علي وغضبت من كلامي. ثم قمت من عندها وجئت فلم أجدك وخشيت من الرواح إلى ابن بكار فصرت واقفة أترقبك حتى أسألك عنه وأعلم ما هو فيه فأسألك من فضلك أن تاخذ مني شيئاً من المال فإنك ربما استعرت أمتعة من أصحابك وضاعت عليك فتحتاج أن تعوض على الناس ما ذهب لهم من الأمتعة، قال الجواهرجي فقلت: سمعاً وطاعة ثم مشيت معها إلى أنأتينا إلى قرب محلي فقالت لي: قف هنا حتى أعود إليك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية مضت ثم عادت وهي حاملة المال فأعطته للجواهرجي وقالت له: يا سيدي أنجتمع بك في أي محل؟ قال الجواهرجي، فقلت لها: أتوجه إلى داري في هذه الساعة وأتحمل الصعوبة لأجل خاطرك واتدبر فيما يوصلك إليه فإنه يتعذر إليه في مثل هذا الوقت ثم ودعتني ومضت فحملت المال وأتيت به إلى منزلي وعددت المال فوجدته خمسة آلف دينار فأعطيت أهلي منه شيئاً ومن كان له عندي شيء أعطيته عوضاً منه، ثم إني أخذت غلماني وذهبت إلى الدار التي ضاعت منها الأمتعة وجئت بالنجارين والبنائين فأعادوها إلى ما كانت عليه، وجعلت جاريتي فيها ونسيت ما جرى لي ثم تمشيت إلى دار علي بن بكار، فلما وصلت إليها أقبل غلمانه علي وقال لي واحد منهم: إن غلمان سيدي في طلبك ليلاً ونهاراً وقد وعدهم أن كل من أتاه بك يعتقه فهم يفتشون عليك ولم يعرفوا لك موضعاً وقد رجعت إلى سيدي عافيته وهو تارة يفيق وتارة يستغرق، فلما يفيق يذكرك ويقول: لا بد أن تحضروه لحظة لي ويعود إلى حال سبيله قال الجواهرجي: فمضيت مع الغلام إلى سيده فوجدته لا يستطيع الكلام فلما رأيته جلست عند رأسه ففتح عينيه فلما رأني قال: اعلم أن لكل شيء نهاية، ونهاية الهوى الموت أو الوصال وأنا إلى الموت أقرب فيا ليتني مت من قبل الذي جرى ولولا أن الله لطف بنا لافتضحنا ولا أدري ما الذي يوصلني إلى الخلاص مما أنا فيه ولولا خوفي من الله تعالى لعجلت على نفسي بالهلاك واعلم يا أخي أنني كالطير في القفص وإن نفسي هالكة من الغصص ولكن لها وقت معلوم وأجل محتوم ثم أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
شكا ألم الفراق الناس قبلـي وروع بالنوى حي ومـيت
واما مثل ما ضمت ضلوعي فإني ما سمعـت ولا رأيت
فلما فرغ من شعره قال له الجواهرجي: يا سيدي اعلم أني عزمت على الذهاب إلى داري فلعل الجارية ترجع إلي بخبر، فقال علي بن بكار: لا بأس بذلك ولكن أسرع بالعودة عندنا لأجل أن تخبرني. قال الجواهرجي فودعته وانصرفت إلى داري فلم يستقر بي الجلوس حتى رأيت الجارية أقبلت وهي في بكاء ونحيب فقلت لها: ما سبب ذلك؟ فقالت يا سيدي اعلم أنه حل بنا ما حل من أمر نخافه فإني مضيت من عندك بالأمس، وجدت سيدتي مغتاظة على وصيفة من الوصيفتين اللتين كانتا معنا تلك الليلة وامرت بضربها فخافت من سيدتها وهربت فلاقاها بعض الموكلين بالباب، وأراد ردها إلى سيدتها فلوحت له بالكلام فلاطفها واستنطقها عن حالهافإخبرته بما كنا فيه فبلغ الخبر إلى الخليفة فأمر بنقل سيدتي شمس النهار وجميع ما لها إلى درجة الخلافة ووكل بها عشرين خادماً ولم أجتمع بها إلى الآن ولم أعلمها بالسبب وتوهمت أن بسبب ذلك فخشيت على نفسي واحترت يا سيدي ولم أدر كيف أحتال في أمري وأمرها ولم يكن عندها حفظ لكتمان السر مني، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت للجواهرجي: توجه يا سيدي إلى علي بن بكار سريعاً وأخبره بذلك لأجل أن يكون على أهبة فإذا انكشف الأمر نتدبر في شيء نفعله لنجاة أنفسنا. فأخذني من ذلك هم عظيم وصار الكون في وجهي ظلاماً كمن كلام الجارية وهمت الجارية بالإنصراف فقلت لها: وما الرأي؟ فقالت لي: الرأي أن تبادر إلى علي بن بكار إن كان صديقك وتريد له النجاة وانت عليك تبليغ هذا الخبر بسرعة وأنا علي أن أتقيد باستنشاق الأخبار ثم ودعتني وخرجت. فلما خرجت الجارية قمت وخرجت في أثرها وتوجهت إلى علي بن بكار فوجدته يحدث نفسه بالوصل ويعللها بالمجال فلما رآني رجعت إليه عاجلاً قال: إني أراك رجعت إلي في الحال قلت له: أقصر من التعلق البطال ودع ما أنت فيه من الإشتعال فقد حدث حادث يقضي إلى تلف نفسك ومالك فلما سمع هذا الكلام تغير حاله وانزعج وقال للجواهرجي: يا أخي أخبرني بما وقع؟ فقال له الجواهرجي: يا سيدي اعلم أنه قد جرى ما هو كذا وكذا وانك إن أقمت في دارك هذه إلى آخر النهار فأنت تالف لا محالة، فبهت علي بن بكار وكادت روحه أن تفارق جسده، ثم استرجع بعد ذلك وقال له: ماذا نفعل يا أخي وما عندك من الرأي؟ قال الجواهرجي، فقلت له: الرأي أن تأخذ معك من مالك ما تقدر عليه ومن غلمانك ما تثق به وان تمضي بنا إلى ديار هذه قبل أن ينقضي هذا النهار فقال سمعاً وطاعة، ثم وثب وهو متحير في أمره فتارة يمشي وتارة يقع وأخذ ما قدر عليه واعتذر إلى أهله وأوصاهم بمقصوده وأخذ معه ثلاثة جمال محملة وركب دابة وقد فعلت أنا كما فعل، ثم خرجنا خفية وسرنا ولم نزل سائرين باقي يومنا وليلتنا فلما كان آخر النهار حططنا حمولنا وعقلنا وجمالنا ونمنا فحل علينا التعب وغفلنا عن انفسنا وإذا باللصوص أحاطوا بنا وأخذوا جميع ما كان معنا وقتلوا الغلمان ثم تركونا بأماكننا ونحن في أقبح حال بعد أن أخذوا المال وساروا، فلما قمنا مشينا إلى أنأصبح الصباح فوصلنا إلى بلد فدخلناها وقصدنا مسجده ونحن عرايا وجلسنا في جنب المسجد باقي يومنا فلما جاء الليل بتنا في المسجد تلك الليلة ونحن من غير أكل ولا شرب فلما أصبح الصباح وجلسنا وإذا برجل داخل فسلم علينا وصلى ركعتين. ثم التفت لإلينا وقال: يا جماعة هل انتم غرباء؟ قلنا: نعم وقطع اللصوصعلينا الطريق وغزونا ودخلنا هذه البلدة ولا نعرف فيها أحداً نأوي عنده، فقال لنا الرجل هل لكم أن تقوموا معي إلى دياري؟ قال الجواهرجي فقلت لعلي بن بكار: قم بنا معه فننجو من أمرين: الأول اننا نخشى أن يدخل علينا احد يعرفنا في هذا المسجد فنفتضح، والثاني أننا أناس غرباء وليس لنا مكان نأوي إليه.
فقال علي بن بكار: افعل ما تريد ثم إن الرجل قال لنا ثاني مرة: يا فقراء أطيعوني وسيروا معي إلى مكاني قال الجواهرجي فقلت له: سمعاً وطاعة، ثم إن الرجل خلع لنا شيئاً من ثيابه وألبسنا ولاطفنا فقمنا معه إلى داره فطرق الباب فخرج إلينا خادم صغير وفتح الباب، فدخل الرجل صاحب المنزل ودخلنا خلفه ثم إن الرجل أمر بإحضار بقجة فيها أثواب وشاشات فألبسنا حلتين وأعطانا وأعطانا شاشين فتعممنا وجلسنا وإذا بجارية أقبلت لإلينا بمائدة ووضعتها بين أيدينا فاكلنا وشربنا شيئاً يسيراً ورفعت المائدة ثم أقمنا عنده إلى أن حل الليل. فتأوه علي بن بكار وقال للجواهرجي: يا أخي اعلم انني هالك لا محالة وأريد أن اوصيك وصية وهو انك إذا رأيتني مت تذهب إلى هذا المكان لأجل أن تأخذ عزابي، وتحضر غسلي وأوصيها أنتكون صابرة على فراقي ثم وقع مغشياً عليه فلما أفاق سمع جارية تغني من بعيد وتنشد الأشعار فصار يصغي إليها ويسمع صوتها وهو تارة يضحك وتارة يبكي شجناً وحزناً مما أصابه فسمع الجارية تطرب بالنغمات وتنشد هذه الأبيات:
عجل البين بيننـا بـالـفـراق بعد ألف وجـيرة واتـفـاق
فرقت بيننا صروف اللـيالـي ليت شعري متى يكون التلاقي
ما أمر الفراق بعد اجتـمـاع ليته ما أضر بـالـعـشـاق
غصة الموت ساعة ثم تنقضي وفراق الحبيب في القلب باق
لو وجدنا إلى الفراق سـبـيلاً لأذقنا الفراق طعم الـفـراق
فلما سمع ابن بكار إنشاد الجارية شهق شهقة ففارقت روحه جسده، قال الجواهرجي: فلما رأيته مات أوصيت عليه الدار وقلت له: اعلم أنني متوجه إلى بغداد لأخبر والدته وأقاربه حتى يأتوا ليجهزوه ثم إني توجهت إلى بغداد ودخلت داري وغيرت ثيابي وبعد ذلك ذهبت إلى دار علي بن بكار فلما رآني غلمانه أتوا إلي وسألوني عنه وسألتهم أن يستأذنوا لي والدته في الدخول عليها فأذنت لي بالدخول وسلمت عليها وقلت: إن الله إذا قضى أمراً لا مفر من قضائه وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً فتوهمت أم علي بن بكار من هذا الكلام أن ابنها قد مات فبكت بكاءً شديداً، ثم قالت: بالله عليك أن تخبرني هل توفي ولدي؟ فلم أقدر أن أرد عليها جواباً من كثرة الجزع، فلما رأتني على تلك الحالة انخنقت بالبكاء ثم وقعت على الأرض مغشياً عليها فلما أفاقت من غشيتها قالت: ما كان من أمر ولدي؟ فقلت لها: عظم الله أجرك فيه ثم إني حدثتها بما كان من أمره من المبتدأ إلى المنتهى قالت: أوصاك بشيء؟ فقلت لها: نعم وأخبرتها بما أوصاني به وقلت لها: أسرعي في تجهيزه فلما سمعت أم علي بن بكار كلامي سقطت مغشياً عليها فلما أفاقت عزمت على ما أوصيتها به ثم إني رجعت إلى داري وسرت في الطريق أتفكر في حسن شبابه فبينما أنا كذلك وإذا بامرأة قبضت على يدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة المائتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواهرجي قال: وإذا بامرأة قد قبضت على يدي فتأملتها فرأيتها الجارية التي كانت تمشي من عند شمس النهار وقد علاها الإنكسار فلما تعارفنا بكينا جميعاً وسرنا حتى أتينا إلى تلك الدار فقلت لها: هل علمت بخبر علي بن بكار؟ فقالت: لا والله، فأخبرتها بخبره وما كان من أمره ثم إني قلت لها: كيف حال سيدتك؟ فقالت: لم يقبل فيها أمير المؤمنين قول أحد لشدة محبته لها وقد حمل جميع أمورها على المحامل الحسنة وقال لها: يا شمس النهار أنت عندي عزيزة وانا اتحملك على رغم أعدائك ثم أمر لها بفرش مقصورة مذهبة وحجرة مليحة وصارت عنده من ذلك في قبول عظيم، فاتفق أنه جلس يوماً من الأيام على جري عادته للشراب، وحضرت المحاذي بين يديه فأجلسهن في مراتبهن وأجلسه بجابنه وقد عدمت صبرها وزاد أمرها فعند ذلك أمر جارية من الجواري أن تغني فأخذت العود وضربت به وجعلت تقول:
وداع دعاني للهـوى فـأجـبـتـه ودمعي بحط الوجد حطا على خدي
كأن دموع العين تخبـر حـالـنـا فتبدي الذي أخفى وتخفي الذي أبدي
فكيف أروم السر او أكتم الـهـوى وفرط غرامي فيك يظهر ما عندي
وقد طاب موتي عند فقد أحبـتـي فيا ليت شعري ما يطيب لهم بعدي
فلما سمعت شمس النهار إنشاد الجارية لم تستطع الجلوس ثم سقطت مغشياً عليها فرمى الخليفة القدح وجذبها عنده وصاح وصاحت الجواري وقلبها أمير المؤمنين فوجدها ميتة فحزن أمير المؤمنين لموتها وأمر أن يكسر جميع ما كان في الحضرة من الآلات والقوانين وحملها في حجرة بعد موتها ومكث عندها باقي ليلته فلما طلع النهار جهزها وأمر بغسلها ودفنها وحزن عليها حزناً كثيراً ولم يسأل عن حالها ولا عن الأمر الذي كانت فيه ثم قالت الجارية للجواهرجي: سألتك بالله أن تعلمني بوقت خروج جنازة علي بن بكار وأن تحضرني دفنه، فقال لها: أما أنا ففي أي محل شئت تجدني وأما أنت فمن يستطيع الوصول إليك في المحل الذي أنت فيه. فقالت له: إن أمير المؤمنين لما ماتت شمس النهار أعتق جواريها من يوم مماتها وأنا من جملتهن ونحن مقيمات على تربتها في المحل الفلاني فقمت معها وأتيت المقبرة وزرت شمس النهار ثم مضيت إلى حالي ولم أزل أنتظر جنازة علي بن بكار إلى أن جاءت فخرجت له أهل بغداد وخرجت معه فوجدت الجارية بين النساء وهي أشدهن حزناً ولم أر جنازة أعظم من هذه الجنازة وما زلنا في ازدحام عظيم إلى أن أتينا إلى قبره ودفناه وصرت لا أنقطع عن زيارته ولا عن زيارة شمس النهار. هذا ما كان من حديثهما وليس بأعجب من حديث الملك شهرمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق